"افتح يا سمسم"... أغلقت أبوابها

قمر بن سالم - تونس كم كانت الدنيا جميلة...كم كانت حلوة و بسيطة...أتذكر عندما كنت طفلة..صغيرة...موردة الخدين..كانت عيوني مسبلة من شدة براءتهما ترى من خلالهما غيمة وردية و لمعة دمعة بحر..تحمل في عمقها حبا للحياة..و أملا لأشياء لم أفهمها بعد..و توق لغد أفضل...هكذا كنت و هكذا كانت حياتنا مرتبة منظمة..شي واحد لكل حدث واحد..دراستنا عميقة في محتواها قليلة في فحواها..عظيمة في كيفها..بسيطة في كمها...كل مدينة كبيرة كانت كالقرية الصغيرة حتى العاصمة ذاتها..قليلة الأفراد..كثيرة النشاط...نعيش بأمل..نمشي بهدوء..نفكر بنظام..و ننام في سبات عميق...فالكبير يرى في أحلامه مستقبل الصغير..و الصغير يرى في أحلامه مستقبل كبره و عنفوانه...  كنا بطريقة مباشرة أو غير مباشرة متفقين على مسار واحد..و منهج واحد..تفتح المدارس أبوابها في وقت واحد و تغلقها في وقت واحد..فيعود جميع التلاميذ لمنازلهم في وقت واحد..و السعادة تغمرهم..لأنهم سيجلسون أمام التلفزيون حيث تبدأ البرمجة الاذاعية مساء بالقران الكريم..ثم ببرامج أصدقاءنا الصغار...كنا نجلس بلهفة أمام التلفزيون و العيون لا تتحرك الى أن يفتح "سمسم" أبوابه....لا أنس أبدا لحظات السعادة العارمة التي أعيشها و نعيشها عندما نشاهد برنامج "افتح يا سمسم"..و عندما نلتق "نعمان"..و "عبلة"..و "ميسون"..و بدر و أنيس"..و "قرقور"..و "الضفدع كامل"..برنامجا بيداعوجيا..ثريا..عميقا..قويا...لم نكن نحتاج أبدا لدروس خصوصية..فقد كانت "افتح يا سمسم" هي "المعلمة" و هي "المعلم" في البيت...كل معلماتنا و موادنا نجدها داخل بيوتنا...في شاشة صغيرة...معلمة اللغة العربية..معلمة الحساب...معلمة التربية الاسلامية..و التربية الموسيقية ..و التربية التشكيلية ...و غيرها من أشكال الكتابة الأبجدية....أذهاننا مشبعة و متجهة في مسار واحد..ووفق تربية واحدة .و نظام واحد...هكذا كانت طفولتنا..و هكذا قوة ثقافتنا...و قد كان لذلك الأمر التأثير الكبير على شخصيتي و لغتي..أذكر أن لساني كان يتحرك بمفرده في الثانوية والكلية وهو ينطق اللغة العربية بسلاسة.. و عندما يبدي أساتذتي اعجابهم أقول في نفسي"انني ابنة " افتح يا سمسم"  و بفضل الهوائي(الدش) يتمتع أطفالنا بقناة كاملة لبرنامج الأطفال لا لبرنامج واحد كما هو الحال في زمننا..و لكن لا أعتبرهم محظوظين بل نحن المحظوظون أكثر من أبنائنا..لأن أذهانهم أصبحت مشوشة....كم تمنيت أن تعود ابنتي الى المنزل و تجدا برنامجا واحدا يثري لغتهما و ينمي قدراتهما و معارفهما و يزيد من براءتهما..لكن أجد نفسي محتارة لجلوسهما كثيرا أمام الجهاز لبرنامج لا يدوم ساعة أو نصف ساعة بل قناة مفتوحة 24 ساعة..أنا أريد منهما انجاز فروضهما و تناول عشاءهما و غسل أسنانهما و النوم باكرا..بينما ترغب كل بنت في مزيد المشاهدة لأن القناة أبدا لا تفرغ..و لكن النتيجة....أذهان الأطفال تمتلىء و تفرغ في ان واحد و الأغلب هي ملانة-فارغة..أذكياء..نشيطون..نار ملتهبة و لكنهم يعيشون حالة من التذبذب...  في حيرتي تلك..تمنيت أن أفتح قناتنا الوطنية لأجد برنامجا أو كرتونا..لكنني لا أجد سوى"مجلسا تأسيسيا"..أقول ان بلدي قد تطور و أصبح لدينا قنوات أخرى..أبتسم و أغير القناة لأجد مشاهد صراخ و عويل و شكوى مواطنين ..و اعتداء سلفيين..فأدير قناة أخرى..لكنني عبثا أحاول..اذ أجد مأساة ما يسمى ب"تلفزيون الواقع"...فأقف أمام الشاشة بنفس النظرة و العين البريئة الدامعة لتعيدني الى روعة طفولتي..فأنادي بصوت مرتعش."افتح ياااا سمسم"..و أعيد الكرة " افتح ياااااااا سمسم"...و ما من مجيب..و لا حياة لمن تنادي...و لم تتحرك الصخرة الضخمة..و لم يفتح "سمسم"..فأغطي وجهي بيدي و أبكي بكاء الطفلة..و أدرك حينها أن مع كل سنة تمر لا أزال "طفلة"..و مع كل ثورة تنفجر..لا أزال "طفلة"..و مع كل نار تشتعل..لا أزال "طفلة"..و مع كل حرب تشن..لا أزال "طفلة"..و مع كل لؤلؤة تقع من عيني..كان هناك "زمن جميل"...في المقابل أشاهد أطفالنا يشيخون و يهرمون..و يكبرون في سن السادسة..و ينضجون في سن السابعة نضجا ليس كنضجنا ..فنضجنا خليط من التجربة والقدرة و الثقافة و المعرفة و براءة طفولية متجذرة في العمق..و نضجهم غريب كغرابة نضج زمنهم هذا..زمن لا أجد عبارة تصفه عدا زمن "الغرابة"..زمن "المسخ"..زمن الرداءة"..و لست أعني هنا رداءة عقول أطفالنا..بل بالعكس..فأطفالنا أذكياء..لا زالت عقولهم تتلقى المزيد..و ابتسامتهم حازمة..و نظرتهم حادة..و لكن أخاف نظرتهم تلك.. أشفق عليهم من نضجهم ذاك...  انني امرأة ناضجة و لكنني "طفلة" دائمة اللهو و اللعب..لا أنس تلك السعادة التي انتابتني في سهرة دافئة في احدى ليالي الشتاء الباردة مع صديقتي و زوجها و زوجي..حيث انطلقنا نغني ببراءة طفولية "افتح يا سمسم أبوابك نحن الأطفال...افتح واستقبل أصحابك نحن الأطفااال...."و نغني"سالي" و نغني "بال و سيباستيان" و نغني " ساسوكي" و "الكابتن ماجد"....أمام ابتسامة أعين بناتنا و استغرابهن منا..و نحن نسمع رجع صدى أصواتنا من شدة ضحكاتنا..لأننا دائما نعيش عمق زمننا الجميل...  هكذا كنا و هكذا نحن و هكذا كان زمننا..فهل يا ترى سيجد أطفالنا مجالا للبراءة في كبرهم..و هل سيكون لهم زمن جميل يسترجعونه ذات يوم..و هل سيفتح "سمسم" أبوابه من جديد

قمر بن سالم - تونس

كم كانت الدنيا جميلة...كم كانت حلوة و بسيطة...أتذكر عندما كنت طفلة..صغيرة...موردة الخدين..كانت عيوني مسبلة من شدة براءتهما ترى من خلالهما غيمة وردية و لمعة دمعة بحر..تحمل في عمقها حبا للحياة..و أملا لأشياء لم أفهمها بعد..و توق لغد أفضل...هكذا كنت و هكذا كانت حياتنا مرتبة منظمة..شي واحد لكل حدث واحد..دراستنا عميقة في محتواها قليلة في فحواها..عظيمة في كيفها..بسيطة في كمها...كل مدينة كبيرة كانت كالقرية الصغيرة حتى العاصمة ذاتها..قليلة الأفراد..كثيرة النشاط...نعيش بأمل..نمشي بهدوء..نفكر بنظام..و ننام في سبات عميق...فالكبير يرى في أحلامه مستقبل الصغير..و الصغير يرى في أحلامه مستقبل كبره و عنفوانه...

كنا بطريقة مباشرة أو غير مباشرة متفقين على مسار واحد..و منهج واحد..تفتح المدارس أبوابها في وقت واحد و تغلقها في وقت واحد..فيعود جميع التلاميذ لمنازلهم في وقت واحد..و السعادة تغمرهم..لأنهم سيجلسون أمام التلفزيون حيث تبدأ البرمجة الاذاعية مساء بالقران الكريم..ثم ببرامج أصدقاءنا الصغار...كنا نجلس بلهفة أمام التلفزيون و العيون لا تتحرك الى أن يفتح "سمسم" أبوابه....لا أنس أبدا لحظات السعادة العارمة التي أعيشها و نعيشها عندما نشاهد برنامج "افتح يا سمسم"..و عندما نلتق "نعمان"..و "عبلة"..و "ميسون"..و بدر و أنيس"..و "قرقور"..و "الضفدع كامل"..برنامجا بيداعوجيا..ثريا..عميقا..قويا...لم نكن نحتاج أبدا لدروس خصوصية..فقد كانت "افتح يا سمسم" هي "المعلمة" و هي "المعلم" في البيت...كل معلماتنا و موادنا نجدها داخل بيوتنا...في شاشة صغيرة...معلمة اللغة العربية..معلمة الحساب...معلمة التربية الاسلامية..و التربية الموسيقية ..و التربية التشكيلية ...و غيرها من أشكال الكتابة الأبجدية....أذهاننا مشبعة و متجهة في مسار واحد..ووفق تربية واحدة .و نظام واحد...هكذا كانت طفولتنا..و هكذا قوة ثقافتنا...و قد كان لذلك الأمر التأثير الكبير على شخصيتي و لغتي..أذكر أن لساني كان يتحرك بمفرده في الثانوية والكلية وهو ينطق اللغة العربية بسلاسة.. و عندما يبدي أساتذتي اعجابهم أقول في نفسي"انني ابنة " افتح يا سمسم"

و بفضل الهوائي(الدش) يتمتع أطفالنا بقناة كاملة لبرنامج الأطفال لا لبرنامج واحد كما هو الحال في زمننا..و لكن لا أعتبرهم محظوظين بل نحن المحظوظون أكثر من أبنائنا..لأن أذهانهم أصبحت مشوشة....كم تمنيت أن تعود ابنتي الى المنزل و تجدا برنامجا واحدا يثري لغتهما و ينمي قدراتهما و معارفهما و يزيد من براءتهما..لكن أجد نفسي محتارة لجلوسهما كثيرا أمام الجهاز لبرنامج لا يدوم ساعة أو نصف ساعة بل قناة مفتوحة 24 ساعة..أنا أريد منهما انجاز فروضهما و تناول عشاءهما و غسل أسنانهما و النوم باكرا..بينما ترغب كل بنت في مزيد المشاهدة لأن القناة أبدا لا تفرغ..و لكن النتيجة....أذهان الأطفال تمتلىء و تفرغ في ان واحد و الأغلب هي ملانة-فارغة..أذكياء..نشيطون..نار ملتهبة و لكنهم يعيشون حالة من التذبذب...

في حيرتي تلك..تمنيت أن أفتح قناتنا الوطنية لأجد برنامجا أو كرتونا..لكنني لا أجد سوى"مجلسا تأسيسيا"..أقول ان بلدي قد تطور و أصبح لدينا قنوات أخرى..أبتسم و أغير القناة لأجد مشاهد صراخ و عويل و شكوى مواطنين ..و اعتداء سلفيين..فأدير قناة أخرى..لكنني عبثا أحاول..اذ أجد مأساة ما يسمى ب"تلفزيون الواقع"...فأقف أمام الشاشة بنفس النظرة و العين البريئة الدامعة لتعيدني الى روعة طفولتي..فأنادي بصوت مرتعش."افتح ياااا سمسم"..و أعيد الكرة " افتح ياااااااا سمسم"...و ما من مجيب..و لا حياة لمن تنادي...و لم تتحرك الصخرة الضخمة..و لم يفتح "سمسم"..فأغطي وجهي بيدي و أبكي بكاء الطفلة..و أدرك حينها أن مع كل سنة تمر لا أزال "طفلة"..و مع كل ثورة تنفجر..لا أزال "طفلة"..و مع كل نار تشتعل..لا أزال "طفلة"..و مع كل حرب تشن..لا أزال "طفلة"..و مع كل لؤلؤة تقع من عيني..كان هناك "زمن جميل"...في المقابل أشاهد أطفالنا يشيخون و يهرمون..و يكبرون في سن السادسة..و ينضجون في سن السابعة نضجا ليس كنضجنا ..فنضجنا خليط من التجربة والقدرة و الثقافة و المعرفة و براءة طفولية متجذرة في العمق..و نضجهم غريب كغرابة نضج زمنهم هذا..زمن لا أجد عبارة تصفه عدا زمن "الغرابة"..زمن "المسخ"..زمن الرداءة"..و لست أعني هنا رداءة عقول أطفالنا..بل بالعكس..فأطفالنا أذكياء..لا زالت عقولهم تتلقى المزيد..و ابتسامتهم حازمة..و نظرتهم حادة..و لكن أخاف نظرتهم تلك.. أشفق عليهم من نضجهم ذاك...

انني امرأة ناضجة و لكنني "طفلة" دائمة اللهو و اللعب..لا أنس تلك السعادة التي انتابتني في سهرة دافئة في احدى ليالي الشتاء الباردة مع صديقتي و زوجها و زوجي..حيث انطلقنا نغني ببراءة طفولية "افتح يا سمسم أبوابك نحن الأطفال...افتح واستقبل أصحابك نحن الأطفااال...."و نغني"سالي" و نغني "بال و سيباستيان" و نغني " ساسوكي" و "الكابتن ماجد"....أمام ابتسامة أعين بناتنا و استغرابهن منا..و نحن نسمع رجع صدى أصواتنا من شدة ضحكاتنا..لأننا دائما نعيش عمق زمننا الجميل...

هكذا كنا و هكذا نحن و هكذا كان زمننا..فهل يا ترى سيجد أطفالنا مجالا للبراءة في كبرهم..و هل سيكون لهم زمن جميل يسترجعونه ذات يوم..و هل سيفتح "سمسم" أبوابه من جديد
تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -
    news-releaseswoman