الأدب في زمن قلة الأدب

 الأدب في زمن قلة الأدب

الأدب في زمن قلة الأدب   بقلم : محمد السكري - مصر   لي أصدقاء كثر من الأدباء وأساتذة جامعة والذين قضوا عمرا طويلا بين الكتب والمؤتمرات والندوات والتأليف والترجمة، معظمهم إن لم يكن كلهم يدبّرون بالكاد نفقة المعيشة ويتأزم معهم الأمر أكثر عند المناسبات كدخول المدارس أو في المواسم والأعياد.   نعم لقد أدركنا زمن لم يعد فيه لا العلم ولا الأدب (يأكّل عيش) في الوقت الذي تؤكل فيه  "قلة الادب" أصحابها سلمون ألا بلنتشا  salmon a la plancha    وكاڤيار، بل وتأخذهم إلى ديزني لاند و جزيرة سانتوريني.  "أبو الحسن يحيى" المعروف بالجزار المصري المتوفى سنة ٦٧٢ هجرية كان يعمل جزاراً، فكر يوما أن يهجر الساطور والسكين ليستريح من الذبح والنفخ والسلخ، وقرر أن يذهب ليحترف الشعر لينال العطايا والهدايا كما يفعل الشعراء، لكنه للأسف طلب الشعر في غير عصره وسوق الشعراء كاسدة؛ فعاد الرجل إلى نفخ الذبائح بعد أن انقطع نفسه في نظم القصائد بلا جدوى، وأنشد:   لا تَعبني بصنعة القصاب   فهي أذكى من صنعة  الآدابِ  كان فضلي على الكلاب   فمذ صرتُ أديباً  رجوتُ فضل الكلابِ  ورغم أن الروائي الإنجليزي "وليم ثاكري" لا يعرف أخونا أبو الحسن ولكنه يشاطره الرأي والأحزان إذ يقول :الأدب ليس تجارة ولا مهنة ولكنه الحظ الأنكد. فطوبى لأولئك الذين أدركتهم حرفة الأدب في زمن قلة الأدب .و "أدركته حِرفة الأدب"  بكسر حرف الحاء أي تسلطت عليه مهنة الأدب فصار يخدمها أكثر مما يخدم نفسه دون أن يتمكن من الفكاك منها ليظل يعاني من سوء الحال وبؤس المعيشة وهو التفسير الشائع للجملة وهو يوافق قول الخليل بن أحمد الفراهيدي : "حِرفةُ الأدب آفةُ الأدباء" ، و لكن هناك تفسير آخر للجملة إذا وضعنا ضمة فوق نفس الحرف " حُرفة " والتي تعني سوء الحظ والحرمان والشؤم والتعاسة،  يُقال حُورِفَ فلانٌ إذا ضُيِّق عليه في معاشه ، وقد جمع الثعالبي المعنيين في جملة واحدة عندما قال في كتاب المبهج : "حِرفة الأدب حُرفة"  وثالثة الأثافي أن مشكلة هذه الفئة المحترمة من العلماء والأدباء هي أنهم وبعد هذا العمر الطويل لا يستطيعون القيام بأي عمل آخر  لاعتبارات كثيرة، فترى الواحد منهم وكأنه "تنتالوس" ذلك الإغريقي المسكين الذي تفننت الآلهة في تعذيبه فحكموا عليه أن يظل عطشانا وجائعا وخائفا للابد  .  اما اذا اردت أن تمسك أول الخيط  لتعرف لماذا أصبح عصرنا هو عصر قلة الادب فستجد نفسك تدور في دائرة مغلقة لا تعرف هل بدايتها هو تعليم منهار وأخلاق منحطة، أم إعلام ساقط  وانعدام قدوة، أم فن هابط وذوق عام ردئ، أم نظام فاسد واقتصاد منهار؟  ستدوخ يا عزيزي وربما تقع من طولك،  لذلك خذ بنصيحة الكاتب الكندي  "ألان دونو" الذي قال في كتابه " عصر التفاهة":لا داعي لهذه الكتب المعقّدة، لا تكن فخورا ولا روحانيا، فهذا يُظهرك متكبرا، لا تُقدم أي فكرة جيدة، فستكون عُرضة للنقد، لا تحمل نظرة ثاقبة، وسع مقلتيك، أرخ شفتيك، فكر بميوعة وانحلال، عليك أن تكون قابلا للتعليب، لقد تغيّر الزمن، وأصبح التافهون يسيطرون على كل شيء".

بقلم : محمد السكري - مصر 

لي أصدقاء كثر من الأدباء وأساتذة جامعة والذين قضوا عمرا طويلا بين الكتب والمؤتمرات والندوات والتأليف والترجمة، معظمهم إن لم يكن كلهم يدبّرون بالكاد نفقة المعيشة ويتأزم معهم الأمر أكثر عند المناسبات كدخول المدارس أو في المواسم والأعياد. 

نعم لقد أدركنا زمن لم يعد فيه لا العلم ولا الأدب (يأكّل عيش) في الوقت الذي تؤكل فيه  "قلة الادب" أصحابها سلمون ألا بلنتشا

salmon a la plancha 

 وكاڤيار، بل وتأخذهم إلى ديزني لاند و جزيرة سانتوريني.

"أبو الحسن يحيى" المعروف بالجزار المصري المتوفى سنة ٦٧٢ هجرية كان يعمل جزاراً، فكر يوما أن يهجر الساطور والسكين ليستريح من الذبح والنفخ والسلخ، وقرر أن يذهب ليحترف الشعر لينال العطايا والهدايا كما يفعل الشعراء، لكنه للأسف طلب الشعر في غير عصره وسوق الشعراء كاسدة؛ فعاد الرجل إلى نفخ الذبائح بعد أن انقطع نفسه في نظم القصائد بلا جدوى، وأنشد: 

لا تَعبني بصنعة القصاب 

فهي أذكى من صنعة  الآدابِ

كان فضلي على الكلاب 

فمذ صرتُ أديباً

رجوتُ فضل الكلابِ

ورغم أن الروائي الإنجليزي "وليم ثاكري" لا يعرف أخونا أبو الحسن ولكنه يشاطره الرأي والأحزان إذ يقول :الأدب ليس تجارة ولا مهنة ولكنه الحظ الأنكد. فطوبى لأولئك الذين أدركتهم حرفة الأدب في زمن قلة الأدب .و "أدركته حِرفة الأدب"  بكسر حرف الحاء أي تسلطت عليه مهنة الأدب فصار يخدمها أكثر مما يخدم نفسه دون أن يتمكن من الفكاك منها ليظل يعاني من سوء الحال وبؤس المعيشة وهو التفسير الشائع للجملة وهو يوافق قول الخليل بن أحمد الفراهيدي : "حِرفةُ الأدب آفةُ الأدباء" ، و لكن هناك تفسير آخر للجملة إذا وضعنا ضمة فوق نفس الحرف " حُرفة " والتي تعني سوء الحظ والحرمان والشؤم والتعاسة،  يُقال حُورِفَ فلانٌ إذا ضُيِّق عليه في معاشه ، وقد جمع الثعالبي المعنيين في جملة واحدة عندما قال في كتاب المبهج : "حِرفة الأدب حُرفة"

وثالثة الأثافي أن مشكلة هذه الفئة المحترمة من العلماء والأدباء هي أنهم وبعد هذا العمر الطويل لا يستطيعون القيام بأي عمل آخر  لاعتبارات كثيرة، فترى الواحد منهم وكأنه "تنتالوس" ذلك الإغريقي المسكين الذي تفننت الآلهة في تعذيبه فحكموا عليه أن يظل عطشانا وجائعا وخائفا للابد  .

اما اذا اردت أن تمسك أول الخيط  لتعرف لماذا أصبح عصرنا هو عصر قلة الادب فستجد نفسك تدور في دائرة مغلقة لا تعرف هل بدايتها هو تعليم منهار وأخلاق منحطة، أم إعلام ساقط  وانعدام قدوة، أم فن هابط وذوق عام ردئ، أم نظام فاسد واقتصاد منهار؟  ستدوخ يا عزيزي وربما تقع من طولك،  لذلك خذ بنصيحة الكاتب الكندي  "ألان دونو" الذي قال في كتابه " عصر التفاهة":لا داعي لهذه الكتب المعقّدة، لا تكن فخورا ولا روحانيا، فهذا يُظهرك متكبرا، لا تُقدم أي فكرة جيدة، فستكون عُرضة للنقد، لا تحمل نظرة ثاقبة، وسع مقلتيك، أرخ شفتيك، فكر بميوعة وانحلال، عليك أن تكون قابلا للتعليب، لقد تغيّر الزمن، وأصبح التافهون يسيطرون على كل شيء".


تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -
    news-releaseswoman