الآن نفضت يديَّ من تراب قبرك يا بُنيّ وعدت إلى منزلي كما يعود القائد المنكسر من ساحة الحرب، ! لا أملك إلا دمعةً لا أستطيع إرسالها ، وزفرةً لا أستطيع تصعيدها. ذلك لأن الله الذي كتب لي في لَوْح مقاديره هذا الشقاء في أمرك، فرزقني بك قبل أن أسأله إياك، ثم استلبك مني قبل أن أستعفيه منك، قد أراد أن يتمم قضاءه في وأن يجر عني الكأس حتى ثمالتها، فحرمني حتى دمعةً أرسلها، أو زفرة أصعدها، حتى لا أجد في هذه ولا تلك ما أتفرج به مما أنا فيه، فله الحمد راضيًا وغاضبًا، وله الثناء منعمًا وسالبًا، وله منّي ما يشاء من الرضا بقضائه، والصبر على بلائه.
رأيتك يا بني في فراشك عليلا فجزعتُ، ثم خفت عليك الموت ففزعت، وكأنما كان يُخَيلُ إِليَّ أنَّ الموت والحياة شأن من شئون الناس، وعمل من الأعمال التي تملكها أيديهم، فاستشرت الطبيب في أمرك فكتب لي الدواء ووعدني بالشفاء، فجلست بجانبك أصبُّ في فمك ذلك السائل الأصفر قطرةً قطرة، والقَدَر ينتزع من بين جنبيك الحياة قطعة قطعةً، حتى نظرتُ فإذا أنت في يدي جثة باردة لا حراك بها، وإذا قارورة الدواء لا تزال في يدي، فعلمت أني قد ثَكِلتُك، وأنَّ الأمر أمر القضاء لا أمر الدواء.
سأنام يا بني بعد قليل على فراش مثل فراشك، وسيعالج مني المقدار ما عالج منك، وأحسَبُ أنَّ آخر ما سيبقى في ذاكرتي في تلك الساعة من شئون الحياة وأطوارها وخطوبها وأحداثها هو الندم العظيم الذي لا أزال أكابد ألمه على تلك الجُرَعِ المريرة التي كنت أُجرعك إياها بيدي، وأنت تجود بنفسك فيربد وجهك، وتختلج أعضاؤك، وتدمع عيناك، وما لك يد فتستطيع أن تمدَّها إليَّ لتدفعني عنك، ولا لسان فتستطيع أن تشكو إليَّ مرارة ما تذوق.
لقد كان خيرا لي ولك يا بني أن أكل إلى الله أمرك في شفائك ومرضك، وحياتك وموتك، وألا يكون آخر عهدك بي يوم وداعك لهذه الدنيا تلك الآلام التي كنت أجشِّمك إياها، فلقد أصبحت أعتقد أنني كنت عونًا للقضاء عليك، وأنَّ كأس المنية التي كان يحملها لك القدر في يده، لم تكن أمر مذاقًا في فمك من قارورة الدواء التي كنت أحملها لك في يدي.
ما أسمج وجه الحياة من بعدك يا بني ! وما أقبحَ صورة هذه الكائنات في نظري! وما أشدَّ ظلمة البيت الذي أسكنه بعد فراقك إيَّاه فلقد كنت تطلع في أرجائه شمسا مشرقة تضيء لي كلَّ شيءٍ فيه، أما اليوم فلا ترى عيني مما حولي أكثر مما ترى عينك الآن في ظلمات قبرك.
بكى الباكون والباكيات عليك ما شاءوا وتفجَّعوا ، حتى إذا استنفدوا ماء شُئُونهم وضعفت قواهم عن احتمال أكثر مما احتملوا لجئوا إلى مضاجعهم فسكنوا إليها، ولم يبق ساهرا في ظلمة هذا الليل وسكونه غير عينين قريحتين عين أبيك الثاكل المسكين، وعين أخرى أنت تعلمها.
لقد افتلذ كلٌّ منكم يا بَنِيَّ من كبدي فلذةً، فأصبحت هذه الكبد الخرقاء مزقًا مبعثرة في زوايا القبور، ولم يبق لي منها إلا ذماء قليل لا أحسبه باقيًا على الدهر، ولا أحسب الدهر تارگه دون أن يذهب به كما ذهب بأخواته من قبل.
لولا مجيئكم ما أسفت على خلو يدي منكم؛ لأنني ما تعودت أن تمتد عيني إلى ما ليس في يدي، ولو أنكم بقيتم بعدما جئتم ما تجرعت هذه الكأس المريرة في سبيلكم. لقد كنت أرضى من الدهر في أمركم أن يتزحزح لي عن طريقي التي أسير فيها، وأن يزوي وجهه عني فلا أراه ولا يراني، ولا يحسن إليَّ ولا يسيء، ولا يتقدم إليَّ بخير ولا شر، ولا يتراءى لي مبتسمًا ولا مقطّبًا، ولا ضاحكًا ولا باكيًا لو أنه رضي مني بذلك، ولكنه كان أذكى قلبًا وأنفذ بصرا من أن يفوته العلم بأنني ما كنت أبكي على النعمة لو لم تكن في يدي، وما كنت أجد مرارة فقدانها لو لم أذق حلاوة وجدانها، وكان لا . أن يُجري في سُنَّةَ الشقاء التي أخذ على نفسه أمام الله أن يجريها بين عباده، فلما عجز عن أن يدخل إليَّ من باب الطمع دخل إليَّ من باب الأمل، فهو يمنحني المنحة فأغتبط بها حقبة من الدهر ، حتى إذا علم أنَّ بذرة الأمل التي غرسها في نفسي قد نمت وأزهرت، وأنني قد استعذبت طعم النعمة التي أتاني كرَّ عليَّ فانتزعها من يدي أنعم ما أكونُ بها، كما تُنتزع الكأس الباردة من يد الظامئ الهيمان، ليعظم وقع السهم في كبدي، ويفدح سلب النعمة من يدي، ولولا ذلك ما نال مني منالًا، ولا وجد إلى سبيلا.
يا بَنِيَّ إِنْ قدَّر الله لكم أنْ تتلاقوا في روضة من رياض الجنة، أو على شاطئ غدير من غُدرانها، أو تحت ظلال قصر من قصورها، فاذكروني مثل ما أذكركم، وقفوا بين يدي ربكم صفًا واحدًا كما يقف بين يديه المصلون، ومدُّوا إليه أكفكم الصغيرة كما يمدها السائلون، وقولوا له : «اللهم إنك تعلم أنَّ هذا الرجل المسكين كان يحبنا وكنا نحبه، وقد فرقت الأيام بيننا وبينه، فهو لا يزال يلاقي من بعدنا من شقاء الحياة وبأسائها ما لا طاقة له باحتماله ولا نزال نجد بين جوانحنا من الوجد به والحنين إليه ما ينغص علينا هناء هذه النعمة التي ننعم بها في جوارك بين سمعك وبصرك، وأنت أرحم بنا وبه من أن تعذبنا عذابًا كثيرًا ، فإما أن تأخذنا إليه أو تأتي به إلينا. لا، بل لا تطلبوا منه إلا أن يأتي بي إليكم، فإنَّ الحياة التي كرهتها لنفسي لا أرضاها لكم، فعسى أن يستجيب الله من دعائكم ما لم يستجب من دعائي، فيرفع هذا الستار المسبل بيني وبينكم، فنلتقي كما كنا.
أكتب تعليقك هتا