سبعة أيام في فندق سيسيل

الدكتورة : علياء ابراهيم - مصر "لا شيء في الحياة يزلزل الإنسان مثل النزلات النفسية، إنها أشد فتكاً به من النزلات الصدرية أو المعوية، وتحدث انفجارات داخلية وتولد اكتئاباً مزمناً.." تذكرت هذه الكلمات للكاتب الراحل / مفيد فوزي التي سطرها في إحدى مقالاته بعنوان (وفي الليالي القمرية كنا نسأله)، وأنا أنهي قراءة رواية (طي الألم) للأديبة المصرية/ هالة البدري والتي صدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.  واجهت كاتبة الرواية لحظات حزن ومعاناة أطاحت باستقرمقارها النفسي، نتيجة فقد رفيق دربها الذي شاركها الحياة منذ أن كانت تبلغ من العمر سبعة عشر عاماً، فإذا به يرحل عنها بعد معاناة مع المرض، تاركا إياها وحيدة في أوائل الأربعين من عمرها، وبعد أن كانت السعادة تعني أن يكونا معا، فوجئت برحيله كما عبرت في مقدمة روايتها: (..انسل من الحياة خفيفا خفيفا، حتى لم ندرك أن رحيله كان حقيقة لا وهما).  ولأن الكاتبة استمرت بعد رحيل زوجها ما يقارب من عامين في دوامة من الحزن تعاني في صمت، مستخدمة كل الوسائل النفسية الدفاعية من كبت لمشاعرها حتى تساعد ابنيها تامر وكريم على اجتياز محنة فقدان الأب ولأنها تعلم ان امها لن تتحمل آلامها إلى أن يبدأ جسدها في التمرد عليها ويعجز قلمها عن الكتابة وكلما لجأت إلى تنميل مشاعرها بالانشغال بالأوراق: الميراث والمعاش والعمل، تجد نفسها في معزل عن كل شيء يدور حولها، فهي مع أحمد وفي انتظار أحمد وتبحث عن أحمد، ثم تحاول بوسيلة أخرى هي (التبرير) الذي يردده كل من يحاول ان يخفف عن نفسه آلام فقد الأحباب، بأنهم استراحوا من الألم، او على حد تعبيرها (أن أحمد لم يتألم على الإطلاق باستثناء آلام الجراحة..)، ثم تلجأ إلى وسيلة دفاعية أخرى وهي الانكار ولكن بكامل وعيها كما عبرت (...اقتربت لأدفن رأسي في صدره، وأنا أعي غيابه)، إلى أن تلجأ إلى اقناع نفسها بأنها في انتظار عودته، او كما عبرت (انها تنتظر عودته من السفر...)  وهكذا تمادت الكاتبة في الرفض الواعي الممنهج بإصرارها على التحدث عنه بصيغة الفعل المضارع باعتباره موجودا بينهم، بالاحتماء في اشيائه وتفاصيله، ويظهر هذا جليا في تعبيرها (لست بحاجة إلى الحياة بعيدا عن تفاصيل استخداماته اليومية)  وبينما تتنقل بين هذه الوسائل الدفاعية، يهديها القدر منحة الانعزال والانفراد بنفسها لمدة ثلاثة اسابيع في سويسرا في قصر (لافيني)، وهذا كان جل ما تصبو إليه، أن تنفرد بنفسها، أن تعود لقلمها، أن تكتب، إلى أن اتخذت قرارا بالبوح بالكتابة عن أحمد، ليس بقصد كتابة عمل أدبي، بل على حد تعبيرها : (رصد التأملات دون هدف)، قرار بالبوح في عملية غير مرتبة، يطلق عليها في علم النفس عملية التداعي الحر، ربما يساعدها هذا على فهم ما تشعر وتفكر به في هذه المرحلة، وهنا لعبت الساردة دور المريض والمعالج النفسي، حتى تسمح لهذا البركان الكامن بين جنبات نفسها أن ينفجر على الأوراق، فلعل انفجار البركان يطوي الألم، فإذا بها تطوي الأمل في عودة أحمد بجسده، وتصل الى مرحلة التقبل لصدمة الرحيل، كما عبرت عنها قائلة: ( ...أني أنتظره بلا أمل، وأنا أعرف يقينا أنه غير عائد)  تغطي أحداث الرواية أزمنة عدة بين مرحلة اكتشاف المرض وفترة العلاج ورحيل الزوج، وما بين المرحلة التي تلت الفقد التي امتدت لعامين تقريبا، حتى بدأت في السرد لهذا الحدث بين جنيف والقاهرة وانتهت منه في 2003، ثم مرحلة اتخاذ قرار بنشره في 2020، حيث مرت السنوات وكبرت العائلة والتف حولها الأحفاد، هذا التنوع في الأزمنة ترتب عليه التنقل بين الأمكنة التي شهدت الأحداث، بالإضافة إلى تداخل ذكريات جمعت الزوجين في بداية حياتهما بالعراق وبالقاهرة، وكذلك تعدد الشخوص التي عاصرت الحدث والذكريات ولحظات الكتابة، بل والتداخل بين مناجاتها لنفسها وحواراتها مع الشخصيات بل تضيف إلى كل هذا تساؤلات عن الحياة والموت والسعادة، ورغم كل هذا التنوع، إلا أن الكاتبة استطاعت ببراعة ان تظل ممسكة بجميع الخيوط ،وهي في خضم هذا التنوع تشد القارئ ليرى وهو يقرأ ويقرأ وكأنه يرى وصفا دقيقا للقصر والبيت والحديقة وغرفة النوم وطقم البورسلين الذهبي.....، ثم تنقله إلى وصف الطبيعة من حولها والطقس، ثم تلتحم مع الطبيعة وكأنها جزء لا يتجزأ منها عندما تجسد مشاعرها وأحلامها في صورة ظواهر طبيعية، فتدعو القارئ إلى التأمل وكأنه شريك في العمل، وكأنها تنسج قطعة من الدانتيل خيوطها متداخلة ومتشابكة ورقيقة وشديدة الاتقان، فنجحت كسباحة ماهرة أن تجعل القارئ يسبح معها بين هذه الأزمنة والأمكنة بسلاسة وهدوء ونعومة، دون أن يفقد القارئ تركيزه، أو يشعر بالرتابة، رغم أنه يعرف النهاية منذ الصفحة الأولى. وكأنها تصنع من الأمكنة والأزمنة والشخصيات لوحة رائعة من الفسيفساء، فلا تكاد الأعين تخطئ تفاصيلها وألوانها وروعتها، رغم شدة صغر الأحجار التي تبدو كمنمنمات فائقة الدقة، بل نجحت في أن يشاركها القارئ كل المشاعر وعكسها، الأمل والألم، القلق والسكينة، الفرح والحزن، القوة والضعف في النفس البشرية.  ورغم طغيان حدث رحيل أحمد وتبعاته على صفحات الرواية، إلا أن القارئ سينال حظا وافرا من المعلومات عن أدباء وشعراء ورساميين محليين وعالميين، وستنجح الأديبة في منح القارئ راحة تسافر به على بساط الكلمات بين القاهرة وبغداد وجينف وتشاركه وصف أدق التفاصيل للطبيعة والأماكن والشخصيات التي رحلت وتلك التي على قيد الحياة ، لترتفع الرواية بالمستوى المعرفي للقارئ من خلال المعلومات التاريخية والاجتماعية التي لم تخلو منها الرواية التي عزفت على وتر الفقد وتبعاته العنيفة على نفس الكاتبة.  بل أن الرواية كشفت عن شخصية امرأة تواجه حادثة فقد شريك العمر التي زلزلت كيانها، ولكنها أيضا تدرك قيمة الحياة، أو منحة الحياة للإنسان، بل حتى للنباتات والطبيعة، كما عبرت هي (أدركت منذ الصبا أن منحة الحياة تتجدد كل يوم، فمن شاء اقتنصها بعنفوان، ومن شاء أهدرها )، شخصية تتسم بالقوة والشجاعة كما وصفها أحمد، لكنها تخفي امرأة رقيقة كما عبرت (كثيرا ما سألت نفسي: هل خسرت كثيرا بإخفاء صورة المرأة اللبنة الرقيقة، أم أن حياتي لم تكن تصلح أبدا مع هذا النموذج؟) وهو ما ظهر جليا في طريقة تعاملها مع الرجال بعد انضمامها إلى صفوف النساء الوحيدات، معلنة أنها من تحدد الخطوط والحدود، وكأن حب أحمد منحها قوة داخلية حتى في رحيله.  بعد الانتهاء من قراءة الرواية التي عنونتها الكاتبة (طي الألم) سيدرك القارئ أن العنوان كان الأكثر تعبيرا عن أحداث الرواية، وستتسلل إلى قلبه مشاعر الحب والمودة والاحترام التي تكنها هالة البدري لأحمد الذي وصفته الكاتبة بالزاهد الهادئ الراضي القانع البسيط، حتى بات القارئ يتمنى لو أنه لم يرحل، رغم أن الكاتبة صارحته بأنه رحل منذ الصفحة الأولى، وسيدرك القارئ مشاعر الحنان التي غمر بها، وهنا سيتساءل القارئ عن المعنى العميق للاهداء الذي سطرته الكاتبة: (إلى أحمد في عليائه)... هل كانت تقصد علياء وسمو الشخصية؟ أم علياء العالم الآخر الذي رحل إليه؟ أم كلاهما معا؟.  طي الألم هي رواية ربما حاولت الكاتبة أن تعالج من خلالها نفسها بالكتابة، لكنها مرشحة بقوة لتكون ضمن البرامج العلاجية بالقراءة، لتشارك بها من يمرون بتجربتها نفسها في فقد الزوج وشريك الحياة، لأن قوة شخصية وإرادة الكاتبة وقدرتها العجيبة على التواصل مع نفسها، مع أفكارها، مع مشاعرها، وتقديرها لمنحة الحياة التي تتجدد كل يوم، يمكن أن تكون مصدر إلهام للآخرين، وتساعدهم على إدراك حقيقة أن الموت ليس هزيمة، بل هو حق، وقدر مكتوب، فهناك أناس يموتون وقلوبهم عامرة بحب من حولهم، وهم أيضاً غمروا من حولهم بالحب، فتمتد حياتهم حتى بعد أن توارى أجسادهم الثرى، وهذا هو المعنى الحقيقي للحياة، حتى بعد انتهائها، وهو ما ينطبق على أحمد بطل الرواية الغائب الحاضر. أو على حد تعبير الكاتبة : (مازال هو داخلنا ولن تمحوه يد ولن يتحول إلى ماض أو إلى فكرة طالما لا نريد نحن ذلك لأنه ليس قابعا في الأحشاء، كما كنت أتوهم، بل هو يشاركنا نسيج خلايانا.)

الدكتورة : علياء ابراهيم - مصر

في طريقي إلى قاهرة المعز، مغادرة مدينة الإسكندرية؛مسقط رأسي، وهوى نفسي؛ بصفاء سمائها وهوائها وبحرها، وذكرياتي فيها التي أحملها في قلبي أينما ذهبت، مع كتبي التي تأخذني دائماً بعيداً عن عالمي وواقعي إلى عوالم أخرى، أتنقّل بينها بسعادة وشغف، تساءلت بيني وبين نفسي: ترى، ما الكتاب الذي سيكون جليسي في الأيام التي سأقضيها بعيداً عن الإسكندرية؟ فإذا بعينيّ تقعان على كتاب وصلني بإهداء رقيق من مترجمته الأستاذة غادة جاد، لمؤلفه اليوناني -عاشق الإسكندرية- (هاري تزالاس).

ما إن وقعت عيناي على عنوان الكتاب الذي أصدره مركز دراسات الإسكندرية وحضارة البحر المتوسط بمكتبة الإسكندرية عام 2016 ، حتى تيقنت أنني لن أترك (أسكندريتي)، حتى لو بعدت عنها، فالكتاب عنونه مؤلفه بـ (سبعة أيام في فندق سيسيل)، فكان العنوان كافياً أن يثير في نفسي ذكريات الطفولة والصبا والشباب؛ ففندق سيسيل ليس فندقاً عادياً، فهو أشهر فنادق الإسكندرية الذي استقبل العديد من القادة والملوك والساسة والفنانين في زمن مضى وولى، ولا يزال حتى الآن علامة مميزة لمدينة الإسكندرية.

يتمركز الفندق بمنطقة محطة الرمل، التي كانت في فترة ماضية بديلاً رحباً جميلاً عن "المولات" التي تصيبني بكتم الأنفاس، ويطلّ على البحر الأبيض المتوسط، الذي قرر الإسكندر الأكبر ألا يتركه وحيداً، فاختار له شريكة حياة عروساً هي مدينة الإسكندرية (عروس البحر المتوسط)؛ المدينة الساحلية الساحرة، المفعمة بالغموض، الغنية بكنوز أراضيها، وانفتاح بحارها على أهم الحضارات القديمة، والتي قُدّر لها أن تحتضن أعظم مكتبات العالم القديم؛ مكتبة الإسكندرية التي كانت بمثابة الجسر الذي ربط بين الحضارتين المصرية القديمة والإغريقية، بل ويجمع المؤرخون على أنها كانت موطنا لأقدم جامعة عرفها التاريخ القديم والتي نالت شهرة عالمية في كافة التخصصات العلمية والإنسانية بشهادة المؤرخ الروماني (اميانوس ماركلينوس) الذي كتب مشيرا إلى ذلك: " أن خير تزكية كان في مكان أي طبيب أن يحصل عليها هي أن يقال أنه أتم دراسته في جامعة الإسكندرية.".

لابد أن أعترف عزيزي القارئ أنني أحسست بانحياز لقراءة الكتاب الذي صدر في طبعته الأولى باليونانية عام 2000، ثم بالإنجليزية بعد عشر سنوات من صدور الطبعة اليونانية، فمؤلفه الذي وُلد في الإسكندرية تمتد أصوله لليونان وإيطاليا، وقد عاش في الإسكندرية منذ عام 1936 حتى رحيله في العام 1956 إلى البرازيل، ثم اليونان، ومترجمته هي الأستاذة غادة جاد، (الأسكندرانية) المتخصصة في الأدب اليوناني والروماني، والكتاب هو باكورة إنتاجها في مجال الترجمة، وكاتبة هذا المقال، التي تحتضن الكتاب بشغف في المقعد الخلفي للسيارة، أيضاً (إسكندرية المولد والهوى)، وبحكم سنوات الدراسة والتدريس، متخصصة في الآثار والحضارة اليونانية والرومانية.. تأملت هذا المثلث (السكندري) بامتياز، الذي ضم الكاتب والمترجمة والقارئة، فتساءلت بتعجب: ترى، هل نبحث عن الأشياء التي نحبها، أم هي التي تبحث عنّا وتنجذب إلينا؟

استرخيت قليلاً في السيارة، وحمدت الله على نعمة السكون التي ستمنحني فرصة الانتقال مع هاري وغادة إلى فندق سيسيل، فقد تجيب الرواية عن تساؤل قفز إلى ذهني: ترى، ماذا حدث في هذا الفندق خلال سبعة أيام؟

كاتب سبعة أيام في فندق سيسيل (هاري تزالاس) الذي عمل في مجال الآثار البحرية، وتخصص في مجال تضاريس الإسكندرية خلال العصور القديمة والوسطى، اشتاق لزيارة الإسكندرية - مسقط رأسه - بعد سنوات طويلة من رحيله عنها، فعبّر عن حنينه إليها قائلاً: (أشعر بالإثارة والتوق لها ، كأنني في سبيلي للقاء معشوقة بعد غياب سنين).

سيدرك القارئ منذ الوهلة الأولى أن الراوي يحلم بمدينة الإسكندرية التي رحل عنها، والتي لا تزال تحييا في قلبه، فهل يمكن أن يعثر عليها، كما عبّر عن ذلك متسائلاً: (كيف يمكن للمرء أن يستعيد مدينة طفولته.. أي حنين جارف يعيده إلى آثار ماضيه؟!).

وعلى الرغم من ترشيح دار النشر- التي كانت قد طلبت من الكاتب (هاري تزالاس) أن يعدّ دليلاً إرشادياً سياحياً عن الإسكندرية- للمهندس المعماري (سوريال) ليصحب المؤلف بعد غيابه الطويل عن المدينة ، إلا أن (هاري) كانت لديه رغبة كبيرة أن ينفرد بإسكندرية طفولته في رحلة استكشافية لمدينته الأثيرة، وقد عبّر عن ذلك قائلاً: (أردت أن أقلّب برفق، وعلى مهل، تلك الذكريات التي طالما اشتقت إليها في أغوار روحي.. أردت أن تتملكني الشجون، وأن تتحرك مشاعري، وربما رغبت كذلك في أن أبكي على الأيام الخوالي، لذا رغبت أن أبقى وحدي).

بدأ الراوي رحلته من شرفة حجرته بفندق سيسيل، ليرى منظراً عبّر عن اشتياقه له قائلاً: (من غرفتي في الفندق، استقبلت بلهفة المنظر الذي طالما حُرمت منه لأمد طويل ... رحت أملأ عيني من الساحل على مهل)، لكنه سيدرك تدريجياً، كما أدركت أنا وأبناء جيلي، أن التغيير طال كل شيء، وهو ما لاحظه من شرفته، وخلال رحلته التي دامت سبعة أيام، لكن عشقه لمدينة طفولته، ساعده على تقبّل التغييرات التي طرأت عليها، فلم يتذمر منها مثل بعض الزائرين، معبّراً عن وجهة نظره هذه قائلاً: (قلت لنفسي: لا يجدر بك أن تنظر إلى الإسكندرية بوجه شديد الصفاقة. إن هذه المدينة ليست الحاضر وحسب، بل إنها الماضي كذلك. إنك تستشعرها بأعين مغماة، ولا تمعن النظر في وجهها، وإنما تحسّها بفؤادك).

بدا للراوي، من خلال تجواله في الإسكندرية؛ المدينة التي يبلغ عمرها 2300 عام، أنه يتجوّل بين مدن عدة في مدينة واحدة؛ بطلمية ورومانية ومسيحية مبكرة، وكذلك مدينة الفتح العربي، والمدينة العثمانية، فعبّر عن هذا التمازج بين الحضارات قائلاً: (الإسكندرية المدينة العالمية، إحدى عجائب التعايش، حيث يحيا أناس بسطاء من شتى الأجناس والمذاهب والقوميات معاً حياة قوامها التناغم والازدهار).

ظلّ الراوي في كل لحظة من جولاته بأرجاء مدينته يعاني ازدواجية استثنائية؛ فمن ناحية يرى المكان الحالي على أرض الواقع وما طاله من تغيير، ومن ناحية أخرى تنتعش ذاكرته لترسم للقارئ ما كان عليه المكان نفسه فيما مضى، وتتدفق في قلبه مشاعر جيّاشة تجاه المكان والزمان، وبينما يتجوّل في الشوارع التي اكتظت بالأسواق والسكان، كان يصرّ على زيارة المناطق الأثرية، التي اختلفت بطبيعة الحال عما كانت عليه في (أسكندريته)، ليمنح القارئ معلومات تفصيلية عن تلك المناطق، فتتجسد بتفاصيلها في ذهني، لتدمع عيناي شوقاً إلى تلك المواقع الأثرية التي وقفت فيها طالبة أستمع إلى أساتذتي الكرام، ثم أستاذة أشرح فيها لطلابي الأعزاء.

لن يكون الراوي خلال يومياته السبعة وحيداً، لكن ستصطحبه في جولاته شخصيات عدة؛ وسواء أكانت شخصيات حقيقية، أم من وحي الخيال، فإن وجود هذه الشخصيات (التي تجسدت في الأميرة سيسيل علي طوسون؛ المواطنة الفرنسية التي وُلدت بالإسكندرية ورحلت عنها في سن صغيرة، وابنه شقيقتها الشابة الفرنسية، والمؤلف الإنجليزي وليام ترافير، الذي عاش في الإسكندرية لفترة قصيرة، ودأب على زيارتها بين الحين والآخر، وغيرهم) سيضفي على الحوارات الدائرة أبعاداً سياسية وفلسفية وتاريخية وعقائدية، تجسّد وجهات نظر متباينة تجاه الحياة في الإسكندرية أيام زمان والآن، تبعاً للخلفيات الثقافية والعقائدية لهذه الشخوص.

فالحوار الذي دار بينهم ـ مثلاً ـ عن ظاهرة التحنيط عند المصريين القدماء، ما بين رافض ومتقبّل ونافر، ذكّرني بما كنت أؤكده لطلابي دائماً من أنه لا يمكن أن تنظر إلى الأثر وتقيّمه بمعتقداتك التي قد تختلف كلياً عن معتقدات الإنسان الذي أنتج هذا الأثر، والذي قرر أن يجسّد عقيدته ومفاهيمه في مبنى أو تمثال أو قصيدة شعر، أو حتى قصة في زمن غير الزمان؛ وهكذا لابد وأن تتلاقى الحضارات والثقافات والأديان والذي تجسد ـ مثلاً ـ في مشهد زيارة هاري (المسيحي) مقابر اليهود، مصطحباً مرشداً سياحياً مسلماً، وعندما سمعا آذان الظهر وهما أمام مقبرة طفلة يهودية، بدأ المرشد في أداء صلاة الظهر،فتعجب أن تحيط حشود من الأرواح اليهودية مسيحياً ومسلماً!

خلال سبعة أيام في الإسكندرية، سيكون غموض موقع مقبرة الإسكندر الأكبر محل نقاش بين شخوص الرواية، على الرغم من كثرة البعثات الأجنبية والمصرية التي لم تنجح في فك رموز هذا اللغز، وكأن هذا الشاب الذي قُدّر له تكوين أقوى إمبراطوريات العالم القديم قد كُتب له الخلود حيّاً وميتاً.

عزيزي القارئ يمكنك أن ترى الأماكن وتعيش الذكريات والأحداث مع الراوي والشخصيات التي صحبته خلال الأيام السبعة، ومع نهايات هذه الأيام، ستشعر بقدرة الكاتب الفائقة على أن يخلق من الأمكنة والأزمنة والشخصيات لوحة رائعة من الفسيفساء، لا تكاد الأعين تخطئ تفاصيلها وألوانها وروعتها، لينجح خلال سبعة أيام في استنطاق الآثار الصامتة.

فهل سيجد الكاتب (أسكندريته) التي عاش فيها طفلاً ورحل عنها في شبابه، أم أن ما مضى قد مضى، وستظل إسكندرية طفولته وصباه في ذاكرة القلب فقط؟ فكل جيل ـ غالباً ـ يرى زمانه هو الأجمل والأرقى والأكثر تطوراً.

وهل سيستطيع الكاتب أن يعدّ دليلاً سياحياً إرشادياً عن المدينة الماضية والحاضرة، أم أن كل زائر لها يمكنه أن يخلق (أسكندريته الخاصة به)، كما عبّر مخاطباً القادم إلى المدينة قائلاً: (يا من جئت من آفاق بعيدة، بوسعك أيضاً أن تصنع أسكندريتك، الخامات كلها هنا، وكل ما عليك فعله أن تؤلفها معاً وأنت شبه مغمض العينين).

انتهيت من الكتاب وقد تبادر تساؤل في ذهني، تخيّلت أنني أشارك به الكاتب والمترجمة: ماذا بك يا أسكندريتنا الحبيبة؟.. ما الذي يجعلك بكل هذا السحر؟.. فمهما تغيرتِ ستزداد دقات القلب مع مغادرتك ومع الوصول إليكِ.
تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -
    news-releaseswoman