بوتين… وجيل جديد من «فتيان الزنك»
موفق نيربية - سوريا
في تعريف أوكرانيا، تذكر المراجع أنها بلد معروف بطبيعته المتنوعة الجميلة، وبتراثه وتقاليده الملوّنة، وبجمال نسائه… وبكارثة نووية اسمها تشيرنوبل. هذه البلاد الآن في مهبّ الريح، لن يحميها – نسبياً- إلّا وزنها من احتمالات داكنة في المستقبل، بسبب مغامر يقود الدولة العظمى الثانية في العالم، من حيث قدرتها على تحطيم غيرها، أو تحطيم الكوكب.
يجادل باحثون مهمّون في أن ما حدث كان يمكن تلافيه، لو قامت الإدارة الأمريكية بالضغط من أجل تطبيق متطلبات «اتفاق مينسك- 2» فبراير/ شباط 2015، التي يريدها بوتين من كييف، بدلاً من الاسترخاء والاستمرار في لعبة الجزرة والعصا. وما أراده في الاتفاق؛ وحتى في «اتفاق مينسك – 1 أيلول/سبتمبر 2014 الذي سبق الثاني بخمسة أشهر فقط؛ هو تعديل دستوري يقر باللامركزية، ويزيد من صلاحيات الجمهوريتين موضوع النزاع، إضافة إلى العفو العام، وتبادل الأسرى مثلاً، إضافة إلى ذلك أيضاً، أراد بوتين تأخير وقف إطلاق النار لعدة أيام لمعرفة مصير منطقة محاصرة.
ورد هذا الرأي الناقد في دراسة لمعهد راند، ولدى باحث مهم اسمه شراب، لكن ما بدا كأنه تلكؤ من الإدارة، استمر على المنوال ذاته. وكانت الحكومة الأوكرانية قد قامت بتعديل مقدمة الدستور بعد اتفاق مينسك على عكس متطلباته، بشكل يؤكّد المصير الأوروبي والأطلسي لأوكرانيا… وحتى الساعات الأخيرة قبل الهجوم الروسي، بقي الغرب رافضاً لطلب الروس تحييد أوكرانيا وعدم ضمها للناتو، إيماناً بمشروعية حقها بذلك الطلب حين تتقدّم به. هل كان ذلك التنازل – لو حصل – سيحمي أوكرانيا من بوتين؟ لا يمكن تأكيد ذلك أبداً، وهو لو حصل، ربّما كان سيؤخر الغزو لفترة ما. وقبل ذلك بزمن قال جنرال روسي معلّقاً على الاتفاقات، إنه لا يعنيه ربح الدونباس مع خسارة أوكرانيا! تصريحات بوتين نفسه، وميدفيديف بطريقة أكثر وقاحة، عبّرت عن مثل ذلك سابقاً. جرى الحديث عن أن أوكرانيا بلد «غير متوازن» بين شرقه وغربه، وبين شماله وجنوبه، بين أوكرانيته وروسيته. في إسار النزعة الروسية وعنجهيتها، يمكن التنازل جزئياً، في ما يخص دول البلطيق الثلاث، التي كانت ضمن الاتحاد السوفييتي السابق، وكذلك الدول الآسيوية بطريقة أخرى؛ ولكنّ أوكرانيا وبيلاروسيا موضوع خاص تتداخل مساراته مع روسيا، وضمنها أيضاً. هما الأختان الصغيرتان اللتان لا يمكن التنازل عن حضانتهما أبداً. بيلاروسيا مضمونة عن طريق ديكتاتور فاسد وتافه، وتبقى أوكرانيا ذات الطموحات العالية الأوروبية – الغربية- الديمقراطية… وموضوعها لا يمكن انتظار الموافقة أو الصمت الدوليين عليه، وأصبح ذلك مستحيلاً، يمكن تهيئة الأجواء إلى الحدّ الممكن وحسب.
استقر الوجود الروسي في سوريا وشرق المتوسط إلى حدّ كبير، وأمكن تدريب الأمريكيين والأوروبيينّ على قبول ذلك، إضافة إلى القبول بحصة روسية ثابتة في المسار السياسي والواقع الجغرافي هناك. واستطاعت روسيا تأمين علاقة مصالح متبادلة مع إسرائيل. كما أنها نجحت في الاستفادة من التعارض التركي الأمريكي، ومن الثغرة التي انفتحت ويمكن المرور منها إلى تردّد الأتراك في التزاماتهم الأطلسية عند استحقاقها، ذلك الاتّجاه كلّه، مع الغنيمة في شبه جزيرة القرم، ينبغي تأصيله وتوصيله مع روسيا ضمن أوروبا، للوصول إلى الهدف الأهم: إنهاء قواعد النظام الدولي لعالم ما بعد الحرب الباردة، قبل استكمالها وتكريسها، وفرض قواعد نظام جديد تعود فيه روسيا إلى مقعد الاتّحاد السوفييتي الفارغ. ربّما لن يفشل ذلك المشروع بشكل كامل، لكنّه غالباً لن ينجح أيضاً. فعلى ما يبدو من الملامح حتى الآن؛ وموسكو لا تستجيب ولا تبدي من المرونة حدّها الأدنى اللازم؛ سوف ندخل في مرحلة» قانون القيصر» الأوكراني، بعد أن كنّا في مرحلة قانون قيصر السوري، من دون أل التعريف. وربّما لم يتمكن باحثو معهد راند من الإحاطة بهذه التفاصيل وآفاقها في دراستهم المشار إليها أعلاه. سوف يتأثّر الاقتصاد العالمي إضافة إلى حالته وحالة الاستقرار السياسي والأمني، مع كلّ ما عانى منه بسبب جائحة كورونا حتى الان. فمنطقة الصراع بذاتها تنتج نسبة مهمة من قمح وذرة العالم، كما أن حالة من الخلل والانزياحات، سوف تعمّ إلى فترة حتى تكون العودة إلى وضعية أكثر استقراراً ممكنة. ولكن ما يعنينا هنا هو تأثّر روسيا لاحقاً، بعد أن قيل إن القيمة المالية للاستثمارات فيها قد خسرت ثلث قيمتها في يوم الغزو الأول وحده في أسواقها المالية، وتبع ذلك خسارة الروبل ما يقارب نصف قيمته. سوف يكون الوضع كما كان في السابق، تحت عدسة مكبّرة. فحتى الآن، كانت نقطة قوة اقتصاد الاتحاد الروسي في النفط والغاز، ونقطة ضعفه الأهم في العقوبات التي كانت مفروضة عليه. وما زال الغرب بحاجة إلى الصادرات الروسية في النفط والغاز، حتى أن جميع العقوبات التي فُرضت على روسيا في البداية، راعت هذه المسألة وتسهيل استمرار تدفق هاتين المادتين، وتيسير مستلزماتهما المالية. ومن جانب آخر، أخذت حزمة العقوبات تكبر وتكبر ككرة الثلج؛ حتى أنهت كلّ التحفظات والترددات الأولية؛ وسوف يتضاعف مقدار تأثيرها على الاقتصاد الروسي، ومن ثمّ على الجوانب الأخرى: الاجتماعية والسياسية خصوصاً. سوف تبدأ بذلك مرحلة عضّ أصابع مريرة غير معلوم مداها وامتدادها، هي بالتأكيد سوف تعرقل تحقيق الهدف الروسي الأكبر، وتعديله للنظام الدولي الراهن، وربّما لن يكون من السهل بعد الآن إعادة السياق إلى حالته قبل بداية الاجتياح.. هذا يعني أن إمكانية تراجع بوتين عمّا قام به أصبحت صعبة جداً. نعلم جيداً أن حروب بوتين و»انتصاراته» في البحر المتوسط، وسوريا خصوصاً، قد فتحت الباب إلى حربه على حدوده وحدود الغرب الأوروبي والأطلسي، ولكن الذي لا نعلم عنه الكثير بعد، هو الباب الذي سيفتحه غزو أوكرانيا على الاتفاق النووي، وعلاقة روسيا مع إيران وتركيا وإسرائيل، وعلى الغزوات الروسية في منطقتنا عموماً. ونسمح لأنفسنا أن نسأل أيضاً عن آثار ذلك كلّه على المسألة السورية. ها هو غير بيدرسون- الممثل الأممي للمسألة السورية – قال قبل غيره شيئاً عن ذلك: سوف تغدو العملية السياسية في سوريا أكثر صعوبة، مع إعلانه عن انعقاد اللجنة الدستورية المصغرة، بعد الاجتماعات في جنيف، بعد ثلاثة أسابيع من الآن. مع أنه ليس من الضروري أن تكون تصريحات بيدرسون» المتشائمة» مصدر قلق للسوريين الحائرين والمشوشين حالياً إلى حدّ كبير. وبالأساس، أصبحت العودة بالزمن إلى الوراء مستحيلة، وقد بدأت مغامرة بوتين في أوكرانيا بالغوص في حرب لن تتوقّف بسهولة على الإطلاق. ولا يبدو الأوكرانيون عاجزين عن تحويل هزيمتهم – عند حدوثها- إلى معركة تحرير لطالما اعتادوا عليها في تاريخهم اللافت في هذا المجال.
منذ أكتوبر/تشرين الأول عام 2015، اتهمّت الروائية البيلاروسية- المولودة في أوكرانيا والروسية الثقافة – سفيتلانا أليكسيفتش روسيا بغزو أوكرانيا، مع معارك الدونباس يومذاك، بعد أن كانت قد فازت بجائزة نوبل عن أعمالها الروائية التي تصوّر الحياة في الاتحاد السوفييتي سابقاً. وكان من أجمل نتاجاتها رواية توثيقية بعنوان «فتيان الزنك» ترصد مصائر وحياة من قضى من السوفييت في حربه في أفغانستان، وعاد في تابوت من التوتياء، يلمع تحت الشمس. يقول العديد من الباحثين في انهيار الاتّحاد السوفييتي وكتلته الاشتراكية، أن تلك التوابيت التي كانت تتوارد بالطائرات من أفغانستان، لعبت دوراً خفياً وكبيراً في تهيئة الشعب لعملية التغيير الدراماتيكية، التي تتالت حتى انهيار الاتحاد السوفييتي.. ويبدو أن بوتين؛ بعد أن تجنب في حربه على السوريين الالتحام المباشر معهم، واختار طريق القصف الكاسح عن بعد؛ لم يحسب حساباً لاحتمال طول الحرب الأوكرانية، وخسائرها؛ ولا لدرجة العقوبات اللاحقة وحجمها؛ ولا لبسالة الأوكرانيين في دفاعهم عن مصائرهم؛ ولا لشعبه الذي لن يصمت… وربما نكون في لحظة انعطاف في التاريخ، لن يمنعه تهديد بوتين النووي، الذي ربّما هو دليل فشل على الأرض، وعلى تعرّض الاستراتيجية الهادفة إلى استعادة المركز الدولي القديم لنكسة كبيرة.
أكتب تعليقك هتا