منهجية البحث التاريخي - التعريف اللغوي للتاريخ

منهجية البحث التاريخي أ.سيساوي أحمد  التعريف اللغوي للتاريخ أولاً: عربيـاً: ورد في لسان العرب لابن منظور، الجزء الأول، ص 59 التاريخ: كلمة مشتقة من الفعل أَرَّخَ يؤرخ تأريخاً وتاريخاً، بمعنى تعريف الوقت، والتوريخ مثله، وأرَّخ الكتاب أو ورَّخه بمعنى وقَّته. وفي المعجم الوسيط لإبراهيم أنيس وآخرين، الجزء الأول، ص 13. أرَّخ الكتاب: فصل تاريخه وحدد وقته، وهو جملة الأحوال والأحداث التي يمر بها كائن ما. ويصدق على الفرد والمجتمع، كما يصدق على الظواهر الطبيعية والإنسانية. فالتأريخ هو تسجيل هذه الأحوال، والتاريخ جملة الأحوال. وفي كتاب في منهج البحث التاريخي لعادل حسن غنيم وجمال محمود حجر، الإسكندرية، 1995، ص 21 وما بعدها. لغةً: هو الزمن وبيان الوقت، وورَّخ الكتاب بمعنى وقت كتابته أما اصطلاحاً: فهو ماضي الإنسان، وبعض المؤرخين يرى أنه بعض الأحداث التي وقعت في الماضي، والحاضر وربما المستقبل، وهو السفر الذي يحمل بين دفتيه التطورات الاقتصادية والاجتماعية... التي مرت بها البشرية. إن لفظة التأريخ تطلق على الماضي البشري وتارة على الجهد المبذول لمعرفة الماضي، ويرى قسطنطين زريق: التأريخ هو دراسة الماضي، والتاريخ هو الماضي ذاته. يتناول التاريخ كموضوع الإنسان من حيث هو إنسان، وليس مجرد كائن حي ينمو ويتطور ويموت؛ فهو الوحيد الذي يدرك معنى الزمن، والوحيد (ذو التاريخ) الذي يصنع التاريخ ويصنعه التاريخ. أما تناول الحوادث الطبيعية فليس إلا لمعرفة تأثيرها على الإنسان، والاهتمام بدراسة التاريخ له سببين؛ نفسي وعقلي. فالنفسي لاعتبار أن الإنسان يرى نفسه امتداداً لبني جنسه وبالتالي حرصه على التعرف على ماضي البشرية، أما العقلي فيتميز به بعض الناس للاستفادة من التجارب الماضية. ثانياً. إنجليزيـاً: The New Webster Encyclopedic Dictionary of the English Language التاريخ History: هي كلمة مشتقة من الكلمة اللاتينية "هيستوريا" Historia، ومن اليونانية "لوغوس" Logos؛ وهو عنوان كتاب هيرودوت التاريخي المترجم إلى اللاتينية تحت عنوان "هيستوريوس"؛ بمعنى التعلم والاستخبار، ومن الكلمة الجرمانية "هيستور" Histor؛ بمعنى التعرف والتعلم. والتاريخ هو ذلك الفرع من المعرفة الذي يتعلق بالأحداث التي احتلت مكاناً في وجود العالم، وهو الدراسة والبحث في الماضي. وهو علاقة شخصية بين الأفعال والأحداث. ثالثاً. فرنسيـاً: Dictionnaire Larousse, 1989, p. 505 التاريخ Histoire: مشتق من الكلمة اللاتينية "هيستوريا"، وهو العلاقة بين الأفعال والأحداث الماضية المتعلقة بحياة الإنسانية، مجتمعاً أو فرداً، وهو دراسة وعلم الأحداث الماضية، وهو قسم من الماضي معروف بواسطة وثائق مكتوبة عكس ما قبل التاريخ. وهو أيضاً مجموعة من الأحداث الواقعية أو الخيالية. الحادثة التاريخية: هي الحادثة الإنسانية في إطارها الزماني والمكاني؛ والتي تشكل موضوع التاريخ، لأن التاريخ يدرس الإنسان من خلال مواقف تاريخية، كما يدرس المواقف التاريخية من خلال الإنسان. خصائص الحادثة التاريخية: تتميز بأنها حادثة إنسانية اجتماعية ذات معنى ومفردة لا تتكرر. فهي إنسانية لأن التاريخ هو ما حدث للإنسان مثال الزلازل وأثرها على الإنسان. واجتماعية بمعنى أن الإنسان بقيمته الاجتماعية؛ فكل حادثة تاريخية تحمل معها هويتها الاجتماعية؛ فالبطل التاريخي نجاحه وفشله مرتبط بالمجتمع. والبطل الذي يصنع التاريخ هو بطل صنعه التاريخ. ذات معنى: لأن الإنسان هو الكائن الوحيد المتميز بالفعل الإرادي الواعي خلافاً لبقية الأنواع الأخرى؛ فالأهرام بنيت لأهداف، وإذا عريناها من قيمتها الإنسانية لا يبقى لها أي قيمة تاريخية؛ حيث تصبح كتلة مادية لا تفيد إلا في المجال الهندسي. فهي تصور نظرة الإنسان إلى الوجود وعودة الروح. مفردة لا تتكرر: هذا يعني أنها لا تحدث إلا مرة واحدة محدودة بزمان ومكان وبظروف ودوافع لا تتكرر مثل الثورة الفرنسية. وفي هذا السياق يقول "ماكس ويبر" (1860-1920): "إن الحادثة التاريخية هي ما يحدث مرة واحدة باعتبار المعنى الذي جال في نفوس الأفراد حين اختاروا سلوكهم ذاك الذي سلكوه في سياق تلك الحوداث". وانطلاقاً من هذا يختلف الحادث الطبيعي عن التاريخ؛ إذ الأول جاهز، أما نكبة البرامكة، مثلاً، فهي حادثة مضت ولن تعود. بمعنى أن الحوادث الطبيعية تقع خارج الزمان كما يقولون، أما الحوادث الإنسانية فهي تقع في الزمان؛ زماننا البشري الذي لا نحياه مرتين. المنهج التاريخي: يقصد به الوصول إلى المبادئ والقوانين العامة عن طريق البحث في الأحداث الماضية، وتحليل الحقائق المتعلقة بالمشكلات الإنسانية والقوى الاجتماعية التي شكلت الإنسان. ويحاول الباحث تحديد الظروف التي أحاطت بالظاهرة منذ نشأتها لمعرفة طبيعتها وما تخضع لها من قوانين، ولا يمكن فهم الماضي إلا بالمرور بمرحلتين؛ هما التحليل والتركيب، تبدأ الأولى بجمع الوثائق ونقدها والتأكد من شخصية أصحابها، وينتهي إلى تحديد الحقائق التاريخية الجزئية، ثم تأتي الثانية؛ وفيها يقوم الباحث بتصنيف هذه الحقائق والربط بينها ربطاً عقلياً. الفرق بين القوانين التاريخية والطبيعية: إذا كانت القوانين في العلوم الطبيعية قائمة لكنها تكتشف يوماً بعد يوم؛ فإن ذلك ما يحدث في العلوم الاجتماعية والإنسانية ولكن بطريقة أبطأ بكثير. وفي رأي محمد كامل حسين أن من أهم الفروق بين القوانين التاريخية والطبيعية: الزمن: مهم في الدراسة التاريخية وغير مهم في الدراسة الطبيعية. النتائج: العوامل المتشابهة في العلوم الطبيعية تؤدي إلى نتائج متشابهة مهما اختلف الزمان والمكان، لكنها غير ذلك في التاريخ. القوانين: إن القوانين في العلوم الإنسانية ليست لها صفة الأبدية. وتغيرها أسرع من نظيرتها العلوم الطبيعية. ففي العلوم الإنسانية لا يعني القانون نتيجة محددة دائماً؛ وإنما يعني نتيجة تقديرية أو قاعدة عامة. مثال (1). ابن خلدون: "في الدولة والحضارة". فالدول كالبشر تولد، تنمو، تكبر ثم تضمحل وتموت، والحضارة تتعاقب عليها ثلاثة أطوار: بداوة، حضارة، ثم انحلال. – وهذا منذ خمسة قرون–. مثال (2). أرنولد توينبي: تبنى الحضارة عنده على قانون التحدي والاستجابة؛ بمعنى الظروف القاسية هي التي تحفز الإنسان على العمل والإبداع، وكلما ازداد التحدي تصاعدت قوة الاستجابة، ورغم أنها تنطبق على شعوب معينة ومراحل محددة إلا أنها تعتبر خطوة على الطريق نحو القوانين الدائمة التي يتوقع التوصل إليها مستقبلاً، ومثال ذلك:  العلاقة الدائمة بين الاستعمار العالمي والحركة الصهيونية. الحكم الاستبدادي قد يبني أمة أو مرحلة تاريخية، ولكن لا يبني الإنسان. إن الشعوب التي تكثر تناقضاتها الاقتصادية والاجتماعية والدينية يسهل الوصول إلى حكمها وتصعب قيادتها، أما الشعوب التي تقل تناقضاتها فيصعب الوصول إلى حكمها وتسهل قيادتها. المثالية التاريخية: وهي التي تتأسس على الرأي القائل بأن العوامل الأساسية في نمو المجتمعات الإنسانية هي انسياق الفكر، وقد اشتهرت بها فلسفة "هيجل" (1770-1831)؛ الذي يرى أن التاريخ هو تاريخ الفكر، وأنه يجب أن نركز على ما كان القادة يفكرون فيه حين أقدموا على أعمالهم، لا أن نركز على ما قاموا به من أعمال، وأن القوة التي تدفع التاريخ هي قوة العقل، ويعني ذلك أن كل شيء يحدث وفق حرية الإنسان وإرادته، ويتعارض هذا المذهب مع مذهب المادية التاريخية. المادية التاريخية: وهي نظرية تفسر التاريخ تفسيراً مادياً. وفقاً لهذه النظرية فإن الإنسان منتج اجتماعي لوسائل عيشه، والإنتاج الاجتماعي يتطلب علاقات اجتماعية، وتشكل هذه العلاقات البنيان الاقتصادي للمجتمع الذي يقام فوقه بنيان علوي من الأنظمة والمؤسسات السياسية والقانونية. وقد اشتهرت بها فلسفة "كارل ماركس" (1818-1883) الشيوعية؛ التي تقوم على الماديات. البنية التحتية تسير البنية الفوقية l’infrastructure gère et détermine la superstructure النزعة التاريخية: وهي دراسة الأحداث من حيث ظهورها وتطورها التاريخي، وهي اتجاه يرمي إلى تفسير الأحداث في ضوء تصورها التاريخي؛ أي أننا لا نستطيع أن نحكم على الأفكار والحوادث إلا بالنسبة للوسط التاريخي الذي ظهرت فيه، لا بالنظر إلى قيمتها الذاتية لا غير؛ لأننا إذا نظرنا إليها من الناحية الذاتية فقط وجدناها خاطئة أو شاذة، ولكن إذا نسبناها إلى وسطها التاريخي الذي ظهرت فيه وجدناها طبيعية وضرورية. فلسفة التاريخ تبحث فلسفة التاريخ عن القوة الدافعة في سير التاريخ؛ بمعنى هل النظم الاجتماعية وليدة الصدفة، أم أنها نتيجة ترتبت عن أسباب حتمية؟ وهل يصنع الناس تاريخهم أم أنهم مفروض عليهم بفعل قوى خارجية؟ وهي قديمة المنشأ تطورت خلال القرن الثامن عشر على يد مفكري عصر التنوير أمثال "فولتير"، و"هيردر"، و"كوندورسيه"، و"مونتسكيو" قصد التصدي للتأثير اللاهوتي على التاريخ منذ عصر القديس أوغسطين، ومدى تأثير البنية الجغرافية والاجتماعية على الإنسان. تحديد علم التاريخ: أو بمعنى آخر، هل التاريخ علم أم فن؟ منذ مطلع القرن احتدم النقاش حول طبيعة التاريخ، ودار حول ماهية التاريخ، هل هو علم أم فن؟ أي هل هو علم من العلوم الإنسانية، أم هو مجرد فرع ثانوي من أحدها. لقد دار هذا النقاش في أوروبا خصوصاً في ألمانيا، علماً أن التاريخ ظل يعتبر فناً بأوروبا المسيحية منذ العصور الوسطى وأدباً، ولا يدرجونه ضمن العلوم. في حقيقة الأمر أن هذه المسألة المتعلقة "بعلمية التاريخ المستقلة" تم التطرق إليها ضمن صلتها بالعلوم الإنسانية في الحضارة الإسلامية منذ عدة قرون خلت عن القرن الذي نعيش فيه. لقد تناولها ابن خلدون في مقدمته؛ التي أورد منها عدة نصوص مختصرة: ـ "أما بعد، فإن التاريخ من الفنون التي تتداولها الأمم والأجيال... إذ هو في ظاهره لا يزيد على اختبارٍ عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأُوَّل... وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع (الحوادث) وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة وعريق، وجدير بأن يُعَدَّ من علومها وخليق".  ـ "اعلم أن فن التاريخ فن غزير المذهب، جم الفوائد، شريف الغاية؛ إذ هو يوقفنا على أحوال الماضي من الأمم... فهو محتاج إلى مآخذ متعددة، ومعارف متنوعة، وحسن نظر وتثبت...". ـ "حقيقة التاريخ أنه خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم، وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال، مثل التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف التقلبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع، وسائر ما يحدث من ذلك العمران بطبيعته من الأحوال". ـ "واعلم أن هذا الكلام في هذا الغرض مُستَحدَث الصنعة، غريب النزعة، عزيز الفائدة، أعثر عليه البحث، وأدى إليه الغوص... وكأنه علم مستنبط النشأة... لم أقف على الكلام في منحاه لأحد من الخليقة، ما أدري ألغفلتهم عن ذلك، أو لعلهم كتبوا في هذا الغرض واستوفوه، ثم لم يصل إلينا (شيء مما كتبوه)". كما تناولها السخاوي وهو يعرف التاريخ بقوله: "هو فن يُبحَث فيه عن وقائع الزمان من حيثية التعيين والتوقيف، بل عما كان في العالم"[1]. وفي اعتبارنا يعود تأخر احتدام النقاش في مسألة "التاريخ بين العلم والفن" أو "علمية التاريخ" أو "استقلالية التاريخ علماً بين العلوم"، منذ صدور نظرية ابن خلدون، ومحاولة السخاوي تفسيرها؛ اللذين عاشا في القرنين الثامن والتاسع للهجرة؛ الرابع والخامس عشر للميلاد على التوالي، في عصر أفول الحضارة الإسلامية وسيادة الروح الصليبية المتعصبة لدى المسيحيين؛ الأمر الذي قلل من شأن الاتصالات الحضارية، فظلت هذه المسألة كامنة حتى القرن التاسع عشر الميلادي؛ الذي شهد تغيرات كبرى وتطورات هائلة شملت كل مناحي المجتمعات الأوروبية، ومنها العلوم على اختلافها.  أجاب المؤرخ الفيلسوف الإنجليزي "بيوري" Bury [2] في محاضرته التي ألقاها في جامعة كمبردج بقوله: "إن التاريخ علم لا أكثر ولا أقل"[3]، كما قال أيضاً: "ليس التاريخ فرعاً من فروع الأدب. وإن حقائق التاريخ تشبه حقائق علم البيولوجيا أو علم الفلك، وإن صياغة قصة المجتمع الإنساني في ثوب أدبي تزيد عن كونها جزءاً من عمل المؤرخ كمؤرخ، شأنه في ذلك ما يصنع عالم الفلك حين يسرد بطريقة فنية قصة كواكب الفضاء... علينا أن نتذكر دوماً أن التاريخ، إضافة إلى أنه يزوِّد الأدب بمادته الفنية وبأفكاره الفلسفية، هو في حد ذاته، ببساطة، علم لا أكثر ولا أقل"[4]. ويعالج كولنجوود هذه المسألة بنتيجته التالية: "في اعتقادي أن كل مؤرخ سوف يتفق معي في أن التاريخ نوع من أنواع البحث العلمي، ولست أسأل الآن أي نوع من أنواع البحث هو، وإنما أن التاريخ من حيث الأصل، يندرج تحت ما نسميه بالعلوم، وهي التي يقصد بها ألواناً من التفكير تبعث فينا أسئلة معينة نحاول الإجابة عنها... ومن المهم أن ندرك أن العلم يتألف من تركيز الجهد في شيء لا نعرفه، لنحاول أن نتعرف على حقيقته"[5]. ويقرر شوتويل نتيجة لبحوثه ما يلي: "بالنسبة للذين يبحثون في إذا ما كان التاريخ علماً أم فناً، أستطيع أن أقول بأنه في الحقيقة علم وفن، وأنه الأمران معاً؛ ذلك لأنه من حيث مجال البحث الذي يشتمل هذه المادة يدخل ضمن نطاق العلوم، ومن خلال السرد القصصي والروائي يدخل في مجال الفنون؛ فهو إذن علم وفن، وهنا تكمن عظمة دراسة التاريخ"[6].  يرى المدافعون عن التاريخ كعلم[7] أن أقرب العلوم الطبيعية شبهاً به هو علم الجيولوجيا؛ إذ يدرس الأول ماضي المجتمعات الإنسانية، بينما يدرس الثاني ماضي الكرة الأرضية. فمادة المؤرخ الوثائق على اختلاف أنواعها، ومادة الجيولوجي الصخور والأحجار والطبقات الأرضية. وقد أنكر الفلاسفة الطبيعيون صفة العلم على التاريخ، واستندوا في مذهبهم هذا على نقاط أربع هي[8]: 1. أن مادة التاريخ غير ثابتة وغير قابلة للتحديد على خلاف مواد العلوم الثابتة والمحددة. 2. أن مادة التاريخ لا تخضع لقانون التجربة والمشاهدة، بمعنى أنه لا يمكن معاينة وقائع التاريخ معاينة مباشرة، وأن التجربة والمشاهدة أمران غير ممكنين في الدراسة التاريخية. 3. لا يمكن الوصول في التاريخ إلى شيء "من قبيل التعميمات أو القوانين العلمية"، على اعتبار أن كل واقعة من وقائع التاريخ المُسلَّم بها، هي واقعة قائمة بذاتها، ولا يمكن تصور وقوعها في ظروف مشابهة، أو تصور ظروف يتكرر فيها وقوعها؛ بمعنى "أن التاريخ لا يعيد نفسه". 4. أن عنصر "المصادفة" يلعب دوراً مهماً في التاريخ، الأمر الذي يجعل مستحيلاً كل تقدير مسبق من المؤرخين. ورد المدافعون عن التاريخ كعلم على هذه النقاط بالتالي ترتيباً: 1. أن مادة التاريخ ثابتة ومحددة، وهي الإنسان الثابت، غير المتغير، الصانع لكل العلوم المادية والمطوِّر لها. فالتاريخ يبحث في الفعل ورد الفعل الصادرين عن إنسان غير متغير أصلاً (وهي نظرية توينبي في التاريخ الموسومة بـ "التحدي والاستجابة")[9]. 2. إن استخدام التجربة والمشاهدة وارد في دراسة التاريخ، لأن للتاريخ دورات متشابهة على طول عهود الإنسان، وأن بدراسة هذه الدورات نستطيع أن نضع القوانين والقواعد المسبقة؛ التي تكون نسبة توقع النجاح فيها مماثلاً تقريباً لنسبة توقع النجاح في تجارب أي علم آخر، مثل: قاعدة قياس أعمار الدول، وعلامات السقوط (ابن خلدون). 3. هناك علوم كثيرة تشترك مع التاريخ في عنصر المصادفة؛ فقد لعبت المصادفة دوراً كبيراً في التوصل إلى نظريات ونتائج علمية في علوم الطبيعة والكيمياء والتكنولوجيا والفيزياء وغيرها، مثلاً: اكتشاف نيوتن لقانون الجاذبية (سقوط التفاحة صدفة). هذا إضافةً إلى أن الباحث في التاريخ لا يقف عند حد وصف الحوادث الماضية وتنسيقها فحسب، بل يسعى إلى الكشف عن العلاقات السببية التي توجد بينها؛ لتفسيرها وتعليلها[10]. فائدة دراسة وتدريس التاريخ وطبيعته: لا يمكن لمن يجهل كل شيء عن الماضي أن يفهم عصره، كما لا يمكن لمن يعايش الأحداث الحاضرة أو يساهم فيها أن يفهم عمق حقيقتها ما لم يُلمَّ بميراث الماضي، مهما كان موقفه منه. وإن دراسة الماضي على ضوء الحاضر والمستقبل، يربط أحداث البشرية ضمن عناصر الزمن الثلاثة (الماضي، الحاضر والمستقبل)، هو المجال الذي تتحقق ضمنه "فائدة التاريخ"[11]. أ. طبيعة علم التاريخ يتعذر علينا فهم التاريخ فهماً كافياً إذا ما اقتصرنا على النظر إليه من ناحية واحدة، وهي الناحية السياسية، إذ أن من لا يراه باستمرار في تشعباته التي تتوافق مع طبيعة الحقيقة، سواء المختصة بالنواحي الحضارية المختلفة، أو الاجتماعية، أو الاقتصادية، أو السياسية التي ظلت لقرون طويلة هي طبيعة التاريخ دون سواها، يوصد أمام ذهنه كل أسباب الاستبصار، وفهم التاريخ على حقيقته[12]. لقد كان ابن خلدون سبَّاقاً في إدراك قصور الكتابة التاريخية المقتصرة على السياسة وأحداثها وحدها، ثم تلاه من علماء الغرب المسيحي "فولتير" Voltaire[13]؛ الذي رأى استحالة أن يكون موضوع التاريخ فقط بياناً عن المعارك والعمليات الحربية، أو عن المؤامرات والدسائس الدبلوماسية والسياسية، بل هو واسع كثيراً. فطبيعته تقتضي أن يشمل ماضي الفكر الإنساني بأكمله، أي كل العلوم والمعارف. فإلى جانب الأحداث السياسية، ينبغي على التاريخ أن يتوافق مع طبيعته، فيرسم صورة لتقدم الاتجاهات الفكرية، والميول والتيارات الأدبية والفنية لكل عصر[14].  وانطلاقاً من تعريف التاريخ أنه: "السعي لإدراك الماضي البشري وإحيائه"، ينفي الأستاذ قسطنطين زريق اقتصار صلة التاريخ على الماضي كما يدل عليه المعنى الظاهري لهذا التعريف، ويؤكد على أنه لا يمكننا أن نفصل بالقطع بين ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، على اعتبار أن الحياة البشرية وحدة متكاملة في ماضيها وحاضرها ومستقبلها[15]. فكل ما هو حاضر اليوم، هو ماضٍ غداً، وكل ما هو مستقبل غداً هو حاضر بعده، وماضٍ في اليوم الموالي له؛ ولا يمكن أن يرتسم المستقبل دون بصمات وآثار الحاضر، ولا يمكن للحاضر أن يرتسم بدوره دون فعل ونتائج الماضي. ويغوص رانكه[16] في جوهر التاريخ، فيحدد موضوعه ويصف طبيعته التي لا يمكن أن تتحقق إلا إذا كانت الكتابة التاريخية حية ومثمرة، ولا يمكن أن تكون بهذه الطبيعة إلا إذا اشتملت على المبادئ التالية: 1. الشعور بالفرد، على اعتبار أنه الوحدة الأساسية في المجتمع ومحور الأحداث. 2. الشعور بالقوى الباطنية التي تشكل الأحداث وتحركها. 3. إدراك تطور كل حدث أو فعل من الأفعال الإنسانية الخاص به. 4. الشعور بالأسس العامة للحياة التي تجمع بين كل العناصر السالفة الذكر[17]. وأخيراً نكون قد وضحنا "طبيعة علم التاريخ" وحددناها من خلال: – "موضوعه" الذي يشتمل على النواحي السياسية والحضارية؛ – و"عامل الزمن" الذي يجب أن يشتمل الماضي والحاضر والمستقبل. – و"عامل الحيوية" و"الفائدة". ب. فائدة دراسة وتدريس علم التاريخ: لإدراك فائدة التاريخ وقيمة مجهودات دارسي التاريخ ومدرِّسيه يكفي أن نتصور إنسانية من غير ذاكرة، ونعيش حاضراً ثم مستقبلاً فحسب، وتلغي إلغاءً تاماً كل ما هو ماضٍ وآثاره. يبذل المؤرخ جهوداً مضنيةً في تسجيل كل ما يتعلق بالنشاط الإنساني، ويستغرق في عناء عمله صابراً، ويراكم المعارف دون توقف، وهو يفكر في الجهد اللازم بذله، عاقداً النية عليه، متوسلاً بالمناهج الكفيلة بتحقيق غايته، مواظباً على كل هذه العملية المعقدة وهو يفكر في "منفعة التاريخ"؛ أي الجدوى من عمله وفائدته[18]. لقد تم البحث عن فائدة التـاريخ منذ القدم، وأول كتـابة وصلتنـا في تاريخ الكتابة التاريخية هي لأبي التاريخ هيـرودوت Herodote (484-431 ق.م.) في مقدمة كتابه الموسوم بـ "لوجوس" Logos باليونانية، وتعني قصةً أو تاريخاً، وترجمت إلى اللاتينية بـ "هيستوريوس" Histories. استخلص هيرودوت فائدة التاريخ من خلال ما أرخه كما يلي: "الذي تعلمه هيرودوت الهاليكارناسي عن طريق البحث، تجده هنا ماثلاً بين يديك، وذلك حتى لا تنطمس ذكرى الماضي في أذهان الرجال على مر الأيام. وحتى لا تفتقر تلك الأعمال العظيمة الرائعة التي اضطلع بها اليونانيون والأجانب إلى من يظهرها للملأ"[19]. ويقول في مقدمة كتابه أيضاً: "إن الماضي هو فعل الماضي، وأن الماضي تكمن فائدته للحاضر في أنه مرشد للمستقبل"[20]. ويقول في مقدمته في موضع آخر: "إن التاريخ يخدم الإنسان بحقيقة الإنسان"[21]. وهكذا يتبين لنا أن هيرودوت رأى للتاريخ –من خلال ممارسته– ثلاث فوائدة هي: 1. تسجيل ذكريات ماضي أمة اليونان والأمم الأخرى لتخليدها. 2. صلة الماضي بالحاضر، وفائدة هذا الأخير في أنه مرشد للمستقبل. 3. أن التاريخ يُعرِّف الإنسان بحقيقته من خلال ماضيه ليستدل بذلك إلى مستقبله بصورة أفضل. ونعرج على الحضارة الإسلامية؛ فنستمد منها شذراً مما يدل على إدراك المؤرخين المسلمين "لفائدة التاريخ". لقد أوردنا في العنصر السابق نصوصاً من مقدمة ابن خلدون، استدللنا بها على علمية التاريخ، لكنها احتوت أيضاً على عبارات صريحة ضمنها أوضحت فائدة علم التاريخ، ولتجنب التكرار، فالأمر يستدعي الرجوع إليها في موضعها. ونورد في هذا المقام نصًّا للمؤرخ السخاوي (توفي سنة 902هـ)؛ الذي عاش في العصر التالي على ابن خلدون؛ الذي تتلمذ عليه من خلال كتبه. يقول السخاوي بشأن فائدة التاريخ ما يلي: "أما فائدته (التاريخ) فهي معرفة الدهور على وجهها، وهو يذكر أخبار الأنبياء صلوات الله عليهم وسننهم، فهو مع أخبار العلماء ومذاهبهم، والحكماء وكلامهم، والزُّهَّاد والنُّسَّاك ومواعظهم عظيم الغناء، ظاهر المنفعة. فما يصلح به الإنسان أمر معاده ودينه وسريرته في اعتقاده، وسيرته في أمور الدين، وما يصلح به أمر معاملاته ومعاشه الدنيوي. وكذا ما يُذكَر فيه من أخبار الملوك وسياساتهم، وأسباب مبادئ الدول وإقبالها، ثم انقراضها، وتدبير أصحاب الجيوش والوزراء وما يتصل بذلك من الأحوال التي يتكرر مثلها وأشباهها أبداً في العالم، عزيز النفع، كثير الفائدة بحيث يكون من عرفه كمن عاش الدهر كله وجرَّب الأمور بأسرها، وباشر تلك الأحوال بنفسه؛ فيغزر عقله ويصير مجرباً غير غرٍّ ولا غُمَر"[22]. من خلال هذا النص يتبين لنا أن السخاوي يرى للتاريخ ثلاث فوائد هي: يستفيد رجال الشرع الإسلامي من التاريخ لمعرفة سير الأنبياء والرسل والعلماء والحكماء والزهَّاد. يستفيد الحكام والأمراء والوزراء وقادة الجيوش من التاريخ باستخلاص العبر من الدول السابقة. يسترشد الدارسون والعارفون بمعرفة الماضي، فيعززون عقولهم وتزيد تجاربهم، ويقوى ذكاؤهم. وبعد مرور المراحل والعهود التاريخية التي قطعها "التاريخ" و"الكتابة التاريخية" حتى عصرنا الحاضر، نلاحظ على ضوء تلك التطورات أن كل عالم أو أديب أو فنان لا يمكنه أن يستغني في عمله عن أخذ الماضي بعين الاعتبار، والتأثر به إلى حد قريب أو بعيد، والاسترشاد به ليسير متطوراً نحو الأفضل. فكل العلوم، سواء التجريبية منها أو الاجتماعية الأخرى، تهتم بماضي الحقائق المتعلقة بموضوعها، وتنظر إليها كأحداث ومنطلقات، وبالتالي فهي كلها تحتاج إلى التاريخ، لأن التاريخ مُنساب في شتى العلوم والآداب، مرتبط بها ومتفاعل معها[23]. المنهج التاريخي: يقصد به الوصول إلى المبادئ والقوانين العامة، عن طريق البحث في أحداث التاريخ الماضية، وتحليل الحقائق المتعلقة بالمشكلات الإنسانية والقوى الاجتماعية التي شكلت الحاضر، ويرجع الباحث إلى التاريخ عبر محاولة تأكيد الحوادث الفردية (المنفردة) وغيرها إلى تصوير الأحداث والشخصيات الماضية بصورة تبعث فيها الحياة من جديد، وإنما يحاول تحديد الظروف التي أحاطت بجماعة من الجماعات وبظاهرة من الظواهر منذ نشأتها لمعرفة طبيعتها وما تخضع له من قوانين، ولا يمكن لباحث أن يفهم الماضي إلا إذا مر بمرحلتين أساسيتين وهما مرحلتي التحليل والتركيز. تبدأ المرحلة الأولى بجمع الوثائق ونقدها والتأكد من شخصية أصحابها وتنتهي إلى تحديد الحقائق التاريخية الجزئية، ثم تبدأ المرحلة الثانية ويحاول فيها الباحث تصنيف هذه الحقائق والتأليف حينها تأليفاً عقلياً. من أجل أن يصبح التاريخ دراسة تستحق كل الجهد الذي يبذله الإنسان فيه هناك أربعة أسئلة يحسن أن نسألها لأنفسنا، ثم نحاول الإجابة عنها، وهذه الأسئلة هي: ما هو التاريخ؟ وما هو موضوعه؟ وما هو أسلوبه؟ وما هو هدفه؟ مفهوم البحث التاريخي: إن التاريخ هو نوع من أنواع البحث العلمي؛ إذ هو يندرج تحت ما نسميه "العلوم"، والعلم بصفة عامة لا يخرج عن كونه محاولة لتركيز الجهد حول شيء لا نعرفه، فالعلم هو الكشف عن حقيقة الأشياء، وهذا هو المعنى المقصود من أن التاريخ علم. والتاريخ يبحث عن أسباب تسلسل الظواهر ويحاول ربطها إلى بعضها وتعليلها تعليلاً يقبله العقل. والإنسان هو الوحدة التي يدور التاريخ حولها، وكل جهد يحاول به صاحبه أن يعزل فئة من الناس خارج تاريخ الإنسان، إنما هو جهد فاشل. والخلاصة أن التاريخ له منهج خاص غايته بلوغ المعرفة عن طريق تسلسل الحوادث لا عن سبيل وضع القوانين المجردة؛ فهو علم، والتاريخ يحتاج أيضاً إلى خيال كاتبه وقدرته الأدبية؛ فهو أدب أيضاً. إن التاريخ لا يمكن أن يكون ولا يستطيع أن يكون غير الإجابة عن أسباب ومنشأ الحالة الحاضرة التي نعيشها والأسباب التي وصلت بدنيانا إلى ما نراها عليه الآن. أهداف البحث التاريخي كأي علم آخر من العلوم، هو الكشف عن فرع معين من الحقائق، وهذا النوع هو جهود الإنسان ومنجزاته في الماضي، وبصورة أدق أن التاريخ هو العلم الذي يحاول الإجابة عن الأسئلة التي تتعلق بما بذلته الإنسانية من جهود منذ كانت. إن الهدف من البحث التاريخي هو صنع معرفة علمية من الماضي الإنساني. ونعني بالعلمية أنها تستند إلى طرائق عقلانية توصل إلى الحقيقة بقدر ما تسمح به الظروف التي تخضع لها. وهي ظروف تقنية؛ "طبيعة الوثائق المستخدمة ووجودها"، وظروف منطقية؛ "تلك التي تحللها نظرية المعرفة". مميزات البحث التاريخي: منهج البحث فيه هو تفسير الوثائق، والوثيقة هي الشيء الذي يرجع إلى زمان ومكان معينين، وتحمل معلومات ذات طابع خاص يفكر المؤرخ فيه ويعمل على تفسيره. وبعبارة موجزة –وقوف الإنسان على حقيقة نفسه– وليس معنى هذا أن يعرف مميزاته الشخصية التي تفرق بينه وبين غيره من الناس، وإنما المقصود هو أن يعرف الإنسان طبيعته كإنسان، وما يستطيع أن يعمل وأن يقدم لبني جنسه، وهذا غير ممكن إلا إذا عرف الإنسان ماذا فعل في الماضي، وما هي الجهود التي بذلها فعلاً. وإذن فقيمة التاريخ ترجع إلى أنه يحطنا علماً بأعمال الإنسان في الماضي ومن ثم بحقيقة هذا الإنسان. مقومات البحث التاريخي: إن التاريخ علم ضروري للشعوب والأفراد على السواء؛ فلا بد للفرد أن يعرف نفسه بوقوفه على ماضيه، ولا بد لكل شعب أن يعرف تاريخه ليربط حاضره بماضيه، ويصبح جديراً بالحياة، ولا بد أن يدرس التاريخ دراسة عميقة. ومن اللزوميات أن تتم كتابة التاريخ على خير وجه فيكون الكاتب دقيقاً غاية الدقة باذلاً كل ما في طاقته من جهد وصدق وأمانة وعدل مستعيناً بكل ما لديه من إحساس وفن وذوق، هذا كل يؤدي إلى الوصول إلى الحقيقة قدر المستطاع. ومن هنا كان لا بد أن تتوفر فيمن يتصدى لكتابة التاريخ مجموعة من الصفات والمميزات، وأن تتاح له الظروف التي تجعله قادراً على الدراسة. وأول صفة ينبغي أن يتحلى بها كاتب التاريخ ليصبح مؤرخاً هي حب الدراسة والصبر. فقد يكون البحث وعراً شاقاً، وقد تكون المصاعب التي تعترض الباحث أثناء عمله مصاعب جمة وكبيرة؛ كندرة المصادر وغموض الوقائع والحقائق، ذلك كله لا ينبغي أن يصد الباحث عن بذل الجهد والصبر على مواصلة الدراسة. ولا بد أن يكون المؤرخ أميناً شجاعاً؛ فلا يكذب باصطناع الوقائع، ولا يزيف في تفسيرها، ولا ينافق لإرضاء صاحب أو سلطان؛ فلا رقيب على المؤرخ إلا ضميره. وإذا قلنا بأن التاريخ علم نقد وتحقيق فلا بد من أن يكون المؤرخ ناقداً نافذ البصيرة قادراً على تحليل كل وثيقة تصادفه. أن يكون المؤرخ مولعاً بعمله من أجل هذا العمل بذاته، لا سعياً وراء شهرة أو فائدة مادية، عليه أن يتفرغ لما يدرس تفرعاً تاماً. ومن الصفات التي لا غنى عنها في كل من يريد أن يكون مؤرخاً عدم التحيز أو الميل مع الهوى، فلا بد للمؤرخ أن يحرر نفسه تماماً من عواطفه وميوله الشخصية وأن يصدر أحكامه بصورة موضوعية على أساس ما بين يديه من أدلة ووثائق. ومن صفات المؤرخ أن يكون صاحب حس مرهف وعاطفة إنسانية واضحة حتى يستطيع أن يدرك نوازع الآخرين ويتمكن من تفسير أعمالهم وتصرفاتهم والدوافع التي دفعتهم. تلك هي الصفات الرئيسية التي ينبغي أن تتوافر في من يريد أن يكون مؤرخاً. العلوم المساعدة في البحث: يتصل التاريخ اتصالاً وثيقاً بكثير من صنوف العلوم الإنسانية، ومن يتصدى لكتابته لا بد عليه من تحصيل هذه المعارف. ونحن نسمي هذه المعارف بالعلوم المساعدة: – الواقع أن اللغات تأتي في مقدمتها جميعاً، لأنه من الضروري معرفة اللغة الأصلية الخاصة بموضوع البحث التاريخي؛ أعني أن الذي يريد ناحية من نواحي التاريخ الجزائري للثورة لا يستطيع أن يفعل ذلك إلا إذا تعلم اللغة الفرنسية، والذي يريد الكتابة في موضوع من موضوعات التاريخ الروماني القديم لا بد أن يعرف اللاتينية، ذلك هو السبيل الوحيد الذي يمكن الدارس من قراءة النصوص الأصلية بلغتها الأصلية، وينبغي على الباحث أيضاً أن يكون عارفاً بأكثر من لغة من اللغات الأوروبية الحديثة الشائعة لأن اللغات الأوروبية كلها غنية بتراثها التاريخي. ويأتي بعد ذلك علم قراءة الخطوط Paleography؛ فهو علم لازم لدراسة التاريخ القديم والوسيط، بل ولدراسة الفترات المبكرة من التاريخ الحديث، وتبدو لنا أهمية هذا واضحة جلية حين نتصدى لدراسة تاريخ العرب قبل الإسلام، وتاريخ العصور الوسطى. وعن طريق هذا العلم نستطيع أن نحدد تاريخ هذه الوثيقة، وليس هناك ثمة شك في أن معلوماتنا سوف تظل قاصرةً عن قرون كاملة وطويلة من تاريخ البلاد؛ التي خضعت للعثمانيين ومنهم الجزائر ما لم يوجد من يدرس خط القيرمة مثلاً الذي دونت به وثائق النظم الإدارية والمالية في ظل الحكم العثماني. – ومن العلوم المساعدة الهامة للمؤرخ "علم النوميات" أو علم النقود المسكوكة. فالعملة القديمة تحمل عادة صوراً للآلهة التي كان الناس يعبدونها، كما تحمل صوراً للملوك والأمراء وأسمائهم، وهذه كلها تمد الباحث بمادة أصلية عن العصور القديمة والعصور الوسطى على السواء. – أما الجغرافيا فإنها من المواد المساعدة التي لا يستغني عنها الباحث في التاريخ، ذلك أن الارتباط بين الجغرافيا والتاريخ ارتباط عضوي وثيق؛ فالأرض هي المسرح الذي مثِّلت فوقه الأحداث التاريخية. إن الناس في أية بيئة من البيئات يتفاعلون معها تفاعلاً تلقائياً على الطبيعة الجغرافية لهذه البيئة، ومن ثم يتشكل تاريخهم تشكلاً يرتبط ببيئتهم. ومن أبرز الأمثلة على أثر الطبيعة الجغرافية في تاريخ قوم من الأقوام هو مصر والنيل هو مصدر حياتها، وهو الذي شكل تاريخها. – وينبغي لأن يلم بعلم الاقتصاد إلماماً يمكنه من الوقوف على مدى تأثير العوامل الاقتصادية على مسار التاريخ. فنحن نعرف أن السياسة الداخلية لدولة من الدول تعتمد اعتماداً كبيراً على مدى تراثها الطبيعي ونشاطه التجاري. وطريقة توزيع الثروة الطبيعية في بلد ما تحدد عامة نوع الحكم فيها، وفضلاً عن ذلك فإن الرخاء الاقتصادي يؤثر تأثيراً على النواحي السياسية والعكس صحيح. – والأدب من العلوم المساعدة التي يلزم المؤرخ أن يلم بها؛ فأدب القوم هو مرآة حياتهم وحضارتهم، وهو التغبير الصادق عن أفكارهم وعواطفهم الإنسانية. - ويجب أيضاً الإحاطة بفنون الرسم والتصوير والنحت والعمارة في عصر من العصور لأنه مسألة ضرورية بالنسبة للباحث وتاريخه. إن آثار مصر القديمة والعراق القديم كلها تعطينا صوراً واضحةً لحضارات هذه البلاد وتمدنا بفيض من المعلومات من تقاليد أصحابها وحياتهم الإجتماعية. قائمة الـمصادر والمراجع: باللغة العربية: 1. أرنست كاسيرو: دراسات في المعرفة التاريخية، ترجمة أحمد حمدي محمود، دار النهضة العربية، القاهرة، د.ت. 2. جورج ساتورن: تاريخ العلم، ترجمة مجموعة من الأساتذة، دار المعارف، القاهرة، 1978، ج2. 3. جوزف هورس: قيمة التاريخ، ترجمة نسيم نصر، منشورات عويدات، بيروت، ط3، 1986. 4. السخاوي: الإعلان بالتوبيخ. 5. قسطنطين زريق: نحن والتاريخ، دار العلم للملايين، بيروت، ط4، 1979. 6. كولنجوود: فكرة التاريخ، ترجمة محمد بكير خليل، القاهرة، 1961. 7. محمود قاسم: المنطق الحديث ومناهج البحث، القاهرة، 1949. 8. هرنشو: علم التاريخ، ترجمة عبد الحميد العبادي، القاهرة، 1937. باللغة الأجنبية: 1. Myres, J. L. : Herodotus, Father of History, Oxford, 1953. 2. Réné Roémond : Introduction à l’histoire de notre temps, éditions du Seuil, Paris, 1977, T.3. 3. Rowse, A. L. : The Use of History, London, 1946. 4. Shotwell T. : The History of History, New York, 1950. 5. Stern Fritz : The Varieties of History, Cleveland, USA, 1961. [1]. السخاوي: الإعلان بالتوبيخ، ص 17 [2]. هو John Bagnell Bury، كان أستاذ اللغات القديمة قبل انشغاله بالتاريخ. تأتي شهرته في التاريخ من كتاباته عن الفترة المتأخرة من تاريخ الإمبراطورية الرومانية والعصر البيزنطي. كما كتب في "موسوعة كمبردج" Cambridge Ancient History. كان في شبابه مهتماً بالفلسفة؛ خاصة بفلسفة هيجل، ثم تحول عنها إلى المشاكل الفلسفية في الدراسات التاريخية. وفي سنة 1902 ألقى محاضرته المذكورة أعلاه بعنوان: "علم التاريخ" The Science of History. [3]. Rowse, A. L. : The Use of History, London, 1946, p.86 [4]. Stern Fritz : The Varieties of History, Cleveland, USA, 1961, p.214, 223 [5]. كولنجوود: فكرة التاريخ، ترجمة محمد بكير خليل، القاهرة، 1961، ص ص 41-42 [6]. Shotwell T. : The History of History, New York, 1950, p. 9 [7]. محمود قاسم: المنطق الحديث ومناهج البحث، القاهرة، 1949، ص 236 [8]. هرنشو: علم التاريخ، ترجمة عبد الحميد العبادي، القاهرة، 1937، ص ص 2-3 [9]. كولنجوود: فكرة التاريخ، ص 44 [10]. محمود قاسم: المنطق الحديث ومناهج البحث، ص 236 [11]. Réné Roémond : Introduction à l’histoire de notre temps, éditions du Seuil, Paris, 1977, T.3 (couverture) [12]. أرنست كاسيرو: دراسات في المعرفة التاريخية، ترجمة أحمد حمدي محمود، دار النهضة العربية، القاهرة، د.ت.، ص 71 [13]. واسمه الحقيقي François-Marie Arouet، وهو فرنسي (1694-1778). [14]. المرجع السابق، ص 68 [15]. قسطنطين زريق: نحن والتاريخ، دار العلم للملايين، بيروت، ط4، 1979، ص ص 48-50 [16]. هو المؤرخ الألماني ليوبولد فون رانكه Leopold Von Ranke (1795-1886) [17]. أرنست كاسيرو: دراسات في المعرفة التاريخية، ص 13 [18]. جوزف هورس: قيمة التاريخ، ترجمة نسيم نصر، منشورات عويدات، بيروت، ط3، 1986، ص114 [19]. جورج ساتورن: تاريخ العلم، ترجمة مجموعة من الأساتذة، دار المعارف، القاهرة، 1978، ج2، ص157 [20]. Myres, J. L. : Herodotus, Father of History, Oxford, 1953, p.66 [21]. جوزف هورس: قيمة التاريخ، ص 23 [22]. السخاوي: الإعلان بالتوبيخ، ص32 [23]. قسطنطين زريق: نحن والتاريخ، ص ص50-51

منهجية البحث التاريخي

سيساوي أحمد

التعريف اللغوي للتاريخ

أولاً: عربيـاً:

  • ورد في لسان العرب لابن منظور، الجزء الأول، ص 59
التاريخ: كلمة مشتقة من الفعل أَرَّخَ يؤرخ تأريخاً وتاريخاً، بمعنى تعريف الوقت، والتوريخ مثله، وأرَّخ الكتاب أو ورَّخه بمعنى وقَّته.
  • وفي المعجم الوسيط لإبراهيم أنيس وآخرين، الجزء الأول، ص 13. أرَّخ الكتاب: فصل تاريخه وحدد وقته، وهو جملة الأحوال والأحداث التي يمر بها كائن ما. ويصدق على الفرد والمجتمع، كما يصدق على الظواهر الطبيعية والإنسانية. فالتأريخ هو تسجيل هذه الأحوال، والتاريخ جملة الأحوال.
  • وفي كتاب في منهج البحث التاريخي لعادل حسن غنيم وجمال محمود حجر، الإسكندرية، 1995، ص 21 وما بعدها.
  • لغةً: هو الزمن وبيان الوقت، وورَّخ الكتاب بمعنى وقت كتابته
  • أما اصطلاحاً: فهو ماضي الإنسان، وبعض المؤرخين يرى أنه بعض الأحداث التي وقعت في الماضي، والحاضر وربما المستقبل، وهو السفر الذي يحمل بين دفتيه التطورات الاقتصادية والاجتماعية... التي مرت بها البشرية.
إن لفظة التأريخ تطلق على الماضي البشري وتارة على الجهد المبذول لمعرفة الماضي، ويرى قسطنطين زريق: التأريخ هو دراسة الماضي، والتاريخ هو الماضي ذاته.
يتناول التاريخ كموضوع الإنسان من حيث هو إنسان، وليس مجرد كائن حي ينمو ويتطور ويموت؛ فهو الوحيد الذي يدرك معنى الزمن، والوحيد (ذو التاريخ) الذي يصنع التاريخ ويصنعه التاريخ. أما تناول الحوادث الطبيعية فليس إلا لمعرفة تأثيرها على الإنسان، والاهتمام بدراسة التاريخ له سببين؛ نفسي وعقلي. فالنفسي لاعتبار أن الإنسان يرى نفسه امتداداً لبني جنسه وبالتالي حرصه على التعرف على ماضي البشرية، أما العقلي فيتميز به بعض الناس للاستفادة من التجارب الماضية.

ثانياً. إنجليزيـاً: The New Webster Encyclopedic Dictionary of the English Language

التاريخ History: هي كلمة مشتقة من الكلمة اللاتينية "هيستوريا" Historia، ومن اليونانية "لوغوس" Logos؛ وهو عنوان كتاب هيرودوت التاريخي المترجم إلى اللاتينية تحت عنوان "هيستوريوس"؛ بمعنى التعلم والاستخبار، ومن الكلمة الجرمانية "هيستور" Histor؛ بمعنى التعرف والتعلم. والتاريخ هو ذلك الفرع من المعرفة الذي يتعلق بالأحداث التي احتلت مكاناً في وجود العالم، وهو الدراسة والبحث في الماضي. وهو علاقة شخصية بين الأفعال والأحداث.

ثالثاً. فرنسيـاً: Dictionnaire Larousse, 1989, p. 505

التاريخ Histoire: مشتق من الكلمة اللاتينية "هيستوريا"، وهو العلاقة بين الأفعال والأحداث الماضية المتعلقة بحياة الإنسانية، مجتمعاً أو فرداً، وهو دراسة وعلم الأحداث الماضية، وهو قسم من الماضي معروف بواسطة وثائق مكتوبة عكس ما قبل التاريخ. وهو أيضاً مجموعة من الأحداث الواقعية أو الخيالية.
  • الحادثة التاريخية:
هي الحادثة الإنسانية في إطارها الزماني والمكاني؛ والتي تشكل موضوع التاريخ، لأن التاريخ يدرس الإنسان من خلال مواقف تاريخية، كما يدرس المواقف التاريخية من خلال الإنسان.

خصائص الحادثة التاريخية:

تتميز بأنها حادثة إنسانية اجتماعية ذات معنى ومفردة لا تتكرر. فهي إنسانية لأن التاريخ هو ما حدث للإنسان مثال الزلازل وأثرها على الإنسان. واجتماعية بمعنى أن الإنسان بقيمته الاجتماعية؛ فكل حادثة تاريخية تحمل معها هويتها الاجتماعية؛ فالبطل التاريخي نجاحه وفشله مرتبط بالمجتمع. والبطل الذي يصنع التاريخ هو بطل صنعه التاريخ. ذات معنى: لأن الإنسان هو الكائن الوحيد المتميز بالفعل الإرادي الواعي خلافاً لبقية الأنواع الأخرى؛ فالأهرام بنيت لأهداف، وإذا عريناها من قيمتها الإنسانية لا يبقى لها أي قيمة تاريخية؛ حيث تصبح كتلة مادية لا تفيد إلا في المجال الهندسي. فهي تصور نظرة الإنسان إلى الوجود وعودة الروح. مفردة لا تتكرر: هذا يعني أنها لا تحدث إلا مرة واحدة محدودة بزمان ومكان وبظروف ودوافع لا تتكرر مثل الثورة الفرنسية. وفي هذا السياق يقول "ماكس ويبر" (1860-1920): "إن الحادثة التاريخية هي ما يحدث مرة واحدة باعتبار المعنى الذي جال في نفوس الأفراد حين اختاروا سلوكهم ذاك الذي سلكوه في سياق تلك الحوداث". وانطلاقاً من هذا يختلف الحادث الطبيعي عن التاريخ؛ إذ الأول جاهز، أما نكبة البرامكة، مثلاً، فهي حادثة مضت ولن تعود. بمعنى أن الحوادث الطبيعية تقع خارج الزمان كما يقولون، أما الحوادث الإنسانية فهي تقع في الزمان؛ زماننا البشري الذي لا نحياه مرتين.
  • المنهج التاريخي:
يقصد به الوصول إلى المبادئ والقوانين العامة عن طريق البحث في الأحداث الماضية، وتحليل الحقائق المتعلقة بالمشكلات الإنسانية والقوى الاجتماعية التي شكلت الإنسان. ويحاول الباحث تحديد الظروف التي أحاطت بالظاهرة منذ نشأتها لمعرفة طبيعتها وما تخضع لها من قوانين، ولا يمكن فهم الماضي إلا بالمرور بمرحلتين؛ هما التحليل والتركيب، تبدأ الأولى بجمع الوثائق ونقدها والتأكد من شخصية أصحابها، وينتهي إلى تحديد الحقائق التاريخية الجزئية، ثم تأتي الثانية؛ وفيها يقوم الباحث بتصنيف هذه الحقائق والربط بينها ربطاً عقلياً.

الفرق بين القوانين التاريخية والطبيعية:

إذا كانت القوانين في العلوم الطبيعية قائمة لكنها تكتشف يوماً بعد يوم؛ فإن ذلك ما يحدث في العلوم الاجتماعية والإنسانية ولكن بطريقة أبطأ بكثير. وفي رأي محمد كامل حسين أن من أهم الفروق بين القوانين التاريخية والطبيعية:
الزمن: مهم في الدراسة التاريخية وغير مهم في الدراسة الطبيعية.
النتائج: العوامل المتشابهة في العلوم الطبيعية تؤدي إلى نتائج متشابهة مهما اختلف الزمان والمكان، لكنها غير ذلك في التاريخ.
القوانين: إن القوانين في العلوم الإنسانية ليست لها صفة الأبدية. وتغيرها أسرع من نظيرتها العلوم الطبيعية. ففي العلوم الإنسانية لا يعني القانون نتيجة محددة دائماً؛ وإنما يعني نتيجة تقديرية أو قاعدة عامة.
مثال (1). ابن خلدون: "في الدولة والحضارة". فالدول كالبشر تولد، تنمو، تكبر ثم تضمحل وتموت، والحضارة تتعاقب عليها ثلاثة أطوار: بداوة، حضارة، ثم انحلال. – وهذا منذ خمسة قرون–.
مثال (2). أرنولد توينبي: تبنى الحضارة عنده على قانون التحدي والاستجابة؛ بمعنى الظروف القاسية هي التي تحفز الإنسان على العمل والإبداع، وكلما ازداد التحدي تصاعدت قوة الاستجابة، ورغم أنها تنطبق على شعوب معينة ومراحل محددة إلا أنها تعتبر خطوة على الطريق نحو القوانين الدائمة التي يتوقع التوصل إليها مستقبلاً، ومثال ذلك:
  •  العلاقة الدائمة بين الاستعمار العالمي والحركة الصهيونية.
  • الحكم الاستبدادي قد يبني أمة أو مرحلة تاريخية، ولكن لا يبني الإنسان.
  • إن الشعوب التي تكثر تناقضاتها الاقتصادية والاجتماعية والدينية يسهل الوصول إلى حكمها وتصعب قيادتها، أما الشعوب التي تقل تناقضاتها فيصعب الوصول إلى حكمها وتسهل قيادتها.
  • المثالية التاريخية:
وهي التي تتأسس على الرأي القائل بأن العوامل الأساسية في نمو المجتمعات الإنسانية هي انسياق الفكر، وقد اشتهرت بها فلسفة "هيجل" (1770-1831)؛ الذي يرى أن التاريخ هو تاريخ الفكر، وأنه يجب أن نركز على ما كان القادة يفكرون فيه حين أقدموا على أعمالهم، لا أن نركز على ما قاموا به من أعمال، وأن القوة التي تدفع التاريخ هي قوة العقل، ويعني ذلك أن كل شيء يحدث وفق حرية الإنسان وإرادته، ويتعارض هذا المذهب مع مذهب المادية التاريخية.
  • المادية التاريخية:
وهي نظرية تفسر التاريخ تفسيراً مادياً. وفقاً لهذه النظرية فإن الإنسان منتج اجتماعي لوسائل عيشه، والإنتاج الاجتماعي يتطلب علاقات اجتماعية، وتشكل هذه العلاقات البنيان الاقتصادي للمجتمع الذي يقام فوقه بنيان علوي من الأنظمة والمؤسسات السياسية والقانونية. وقد اشتهرت بها فلسفة "كارل ماركس" (1818-1883) الشيوعية؛ التي تقوم على الماديات. البنية التحتية تسير البنية الفوقية l’infrastructure gère et détermine la superstructure
  • النزعة التاريخية:
وهي دراسة الأحداث من حيث ظهورها وتطورها التاريخي، وهي اتجاه يرمي إلى تفسير الأحداث في ضوء تصورها التاريخي؛ أي أننا لا نستطيع أن نحكم على الأفكار والحوادث إلا بالنسبة للوسط التاريخي الذي ظهرت فيه، لا بالنظر إلى قيمتها الذاتية لا غير؛ لأننا إذا نظرنا إليها من الناحية الذاتية فقط وجدناها خاطئة أو شاذة، ولكن إذا نسبناها إلى وسطها التاريخي الذي ظهرت فيه وجدناها طبيعية وضرورية.
  • فلسفة التاريخ
تبحث فلسفة التاريخ عن القوة الدافعة في سير التاريخ؛ بمعنى هل النظم الاجتماعية وليدة الصدفة، أم أنها نتيجة ترتبت عن أسباب حتمية؟ وهل يصنع الناس تاريخهم أم أنهم مفروض عليهم بفعل قوى خارجية؟ وهي قديمة المنشأ تطورت خلال القرن الثامن عشر على يد مفكري عصر التنوير أمثال "فولتير"، و"هيردر"، و"كوندورسيه"، و"مونتسكيو" قصد التصدي للتأثير اللاهوتي على التاريخ منذ عصر القديس أوغسطين، ومدى تأثير البنية الجغرافية والاجتماعية على الإنسان.
  • تحديد علم التاريخ:
أو بمعنى آخر، هل التاريخ علم أم فن؟
منذ مطلع القرن احتدم النقاش حول طبيعة التاريخ، ودار حول ماهية التاريخ، هل هو علم أم فن؟ أي هل هو علم من العلوم الإنسانية، أم هو مجرد فرع ثانوي من أحدها.
لقد دار هذا النقاش في أوروبا خصوصاً في ألمانيا، علماً أن التاريخ ظل يعتبر فناً بأوروبا المسيحية منذ العصور الوسطى وأدباً، ولا يدرجونه ضمن العلوم.
في حقيقة الأمر أن هذه المسألة المتعلقة "بعلمية التاريخ المستقلة" تم التطرق إليها ضمن صلتها بالعلوم الإنسانية في الحضارة الإسلامية منذ عدة قرون خلت عن القرن الذي نعيش فيه. لقد تناولها ابن خلدون في مقدمته؛ التي أورد منها عدة نصوص مختصرة:

ـ "أما بعد، فإن التاريخ من الفنون التي تتداولها الأمم والأجيال... إذ هو في ظاهره لا يزيد على اختبارٍ عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأُوَّل... وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع (الحوادث) وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة وعريق، وجدير بأن يُعَدَّ من علومها وخليق".

ـ "اعلم أن فن التاريخ فن غزير المذهب، جم الفوائد، شريف الغاية؛ إذ هو يوقفنا على أحوال الماضي من الأمم... فهو محتاج إلى مآخذ متعددة، ومعارف متنوعة، وحسن نظر وتثبت...".
ـ "حقيقة التاريخ أنه خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم، وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال، مثل التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف التقلبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع، وسائر ما يحدث من ذلك العمران بطبيعته من الأحوال".
ـ "واعلم أن هذا الكلام في هذا الغرض مُستَحدَث الصنعة، غريب النزعة، عزيز الفائدة، أعثر عليه البحث، وأدى إليه الغوص... وكأنه علم مستنبط النشأة... لم أقف على الكلام في منحاه لأحد من الخليقة، ما أدري ألغفلتهم عن ذلك، أو لعلهم كتبوا في هذا الغرض واستوفوه، ثم لم يصل إلينا (شيء مما كتبوه)".
كما تناولها السخاوي وهو يعرف التاريخ بقوله: "هو فن يُبحَث فيه عن وقائع الزمان من حيثية التعيين والتوقيف، بل عما كان في العالم"[1].

وفي اعتبارنا يعود تأخر احتدام النقاش في مسألة "التاريخ بين العلم والفن" أو "علمية التاريخ" أو "استقلالية التاريخ علماً بين العلوم"، منذ صدور نظرية ابن خلدون، ومحاولة السخاوي تفسيرها؛ اللذين عاشا في القرنين الثامن والتاسع للهجرة؛ الرابع والخامس عشر للميلاد على التوالي، في عصر أفول الحضارة الإسلامية وسيادة الروح الصليبية المتعصبة لدى المسيحيين؛ الأمر الذي قلل من شأن الاتصالات الحضارية، فظلت هذه المسألة كامنة حتى القرن التاسع عشر الميلادي؛ الذي شهد تغيرات كبرى وتطورات هائلة شملت كل مناحي المجتمعات الأوروبية، ومنها العلوم على اختلافها.

أجاب المؤرخ الفيلسوف الإنجليزي "بيوري" Bury [2] في محاضرته التي ألقاها في جامعة كمبردج بقوله: "إن التاريخ علم لا أكثر ولا أقل"[3]، كما قال أيضاً:
"ليس التاريخ فرعاً من فروع الأدب. وإن حقائق التاريخ تشبه حقائق علم البيولوجيا أو علم الفلك، وإن صياغة قصة المجتمع الإنساني في ثوب أدبي تزيد عن كونها جزءاً من عمل المؤرخ كمؤرخ، شأنه في ذلك ما يصنع عالم الفلك حين يسرد بطريقة فنية قصة كواكب الفضاء... علينا أن نتذكر دوماً أن التاريخ، إضافة إلى أنه يزوِّد الأدب بمادته الفنية وبأفكاره الفلسفية، هو في حد ذاته، ببساطة، علم لا أكثر ولا أقل"[4].
  • ويعالج كولنجوود هذه المسألة بنتيجته التالية:
"في اعتقادي أن كل مؤرخ سوف يتفق معي في أن التاريخ نوع من أنواع البحث العلمي، ولست أسأل الآن أي نوع من أنواع البحث هو، وإنما أن التاريخ من حيث الأصل، يندرج تحت ما نسميه بالعلوم، وهي التي يقصد بها ألواناً من التفكير تبعث فينا أسئلة معينة نحاول الإجابة عنها... ومن المهم أن ندرك أن العلم يتألف من تركيز الجهد في شيء لا نعرفه، لنحاول أن نتعرف على حقيقته"[5].
  • ويقرر شوتويل نتيجة لبحوثه ما يلي:
"بالنسبة للذين يبحثون في إذا ما كان التاريخ علماً أم فناً، أستطيع أن أقول بأنه في الحقيقة علم وفن، وأنه الأمران معاً؛ ذلك لأنه من حيث مجال البحث الذي يشتمل هذه المادة يدخل ضمن نطاق العلوم، ومن خلال السرد القصصي والروائي يدخل في مجال الفنون؛ فهو إذن علم وفن، وهنا تكمن عظمة دراسة التاريخ"[6].

يرى المدافعون عن التاريخ كعلم[7] أن أقرب العلوم الطبيعية شبهاً به هو علم الجيولوجيا؛ إذ يدرس الأول ماضي المجتمعات الإنسانية، بينما يدرس الثاني ماضي الكرة الأرضية. فمادة المؤرخ الوثائق على اختلاف أنواعها، ومادة الجيولوجي الصخور والأحجار والطبقات الأرضية.
وقد أنكر الفلاسفة الطبيعيون صفة العلم على التاريخ، واستندوا في مذهبهم هذا على نقاط أربع هي[8]:
1. أن مادة التاريخ غير ثابتة وغير قابلة للتحديد على خلاف مواد العلوم الثابتة والمحددة.
2. أن مادة التاريخ لا تخضع لقانون التجربة والمشاهدة، بمعنى أنه لا يمكن معاينة وقائع التاريخ معاينة مباشرة، وأن التجربة والمشاهدة أمران غير ممكنين في الدراسة التاريخية.
3. لا يمكن الوصول في التاريخ إلى شيء "من قبيل التعميمات أو القوانين العلمية"، على اعتبار أن كل واقعة من وقائع التاريخ المُسلَّم بها، هي واقعة قائمة بذاتها، ولا يمكن تصور وقوعها في ظروف مشابهة، أو تصور ظروف يتكرر فيها وقوعها؛ بمعنى "أن التاريخ لا يعيد نفسه".
4. أن عنصر "المصادفة" يلعب دوراً مهماً في التاريخ، الأمر الذي يجعل مستحيلاً كل تقدير مسبق من المؤرخين.
ورد المدافعون عن التاريخ كعلم على هذه النقاط بالتالي ترتيباً:
1. أن مادة التاريخ ثابتة ومحددة، وهي الإنسان الثابت، غير المتغير، الصانع لكل العلوم المادية والمطوِّر لها. فالتاريخ يبحث في الفعل ورد الفعل الصادرين عن إنسان غير متغير أصلاً (وهي نظرية توينبي في التاريخ الموسومة بـ "التحدي والاستجابة")[9].
2. إن استخدام التجربة والمشاهدة وارد في دراسة التاريخ، لأن للتاريخ دورات متشابهة على طول عهود الإنسان، وأن بدراسة هذه الدورات نستطيع أن نضع القوانين والقواعد المسبقة؛ التي تكون نسبة توقع النجاح فيها مماثلاً تقريباً لنسبة توقع النجاح في تجارب أي علم آخر، مثل: قاعدة قياس أعمار الدول، وعلامات السقوط (ابن خلدون).
3. هناك علوم كثيرة تشترك مع التاريخ في عنصر المصادفة؛ فقد لعبت المصادفة دوراً كبيراً في التوصل إلى نظريات ونتائج علمية في علوم الطبيعة والكيمياء والتكنولوجيا والفيزياء وغيرها، مثلاً: اكتشاف نيوتن لقانون الجاذبية (سقوط التفاحة صدفة).
هذا إضافةً إلى أن الباحث في التاريخ لا يقف عند حد وصف الحوادث الماضية وتنسيقها فحسب، بل يسعى إلى الكشف عن العلاقات السببية التي توجد بينها؛ لتفسيرها وتعليلها[10].

فائدة دراسة وتدريس التاريخ وطبيعته:

لا يمكن لمن يجهل كل شيء عن الماضي أن يفهم عصره، كما لا يمكن لمن يعايش الأحداث الحاضرة أو يساهم فيها أن يفهم عمق حقيقتها ما لم يُلمَّ بميراث الماضي، مهما كان موقفه منه.
وإن دراسة الماضي على ضوء الحاضر والمستقبل، يربط أحداث البشرية ضمن عناصر الزمن الثلاثة (الماضي، الحاضر والمستقبل)، هو المجال الذي تتحقق ضمنه "فائدة التاريخ"[11].
  • أ. طبيعة علم التاريخ
يتعذر علينا فهم التاريخ فهماً كافياً إذا ما اقتصرنا على النظر إليه من ناحية واحدة، وهي الناحية السياسية، إذ أن من لا يراه باستمرار في تشعباته التي تتوافق مع طبيعة الحقيقة، سواء المختصة بالنواحي الحضارية المختلفة، أو الاجتماعية، أو الاقتصادية، أو السياسية التي ظلت لقرون طويلة هي طبيعة التاريخ دون سواها، يوصد أمام ذهنه كل أسباب الاستبصار، وفهم التاريخ على حقيقته[12].

لقد كان ابن خلدون سبَّاقاً في إدراك قصور الكتابة التاريخية المقتصرة على السياسة وأحداثها وحدها، ثم تلاه من علماء الغرب المسيحي "فولتير" Voltaire[13]؛ الذي رأى استحالة أن يكون موضوع التاريخ فقط بياناً عن المعارك والعمليات الحربية، أو عن المؤامرات والدسائس الدبلوماسية والسياسية، بل هو واسع كثيراً. فطبيعته تقتضي أن يشمل ماضي الفكر الإنساني بأكمله، أي كل العلوم والمعارف. فإلى جانب الأحداث السياسية، ينبغي على التاريخ أن يتوافق مع طبيعته، فيرسم صورة لتقدم الاتجاهات الفكرية، والميول والتيارات الأدبية والفنية لكل عصر[14].

وانطلاقاً من تعريف التاريخ أنه: "السعي لإدراك الماضي البشري وإحيائه"، ينفي الأستاذ قسطنطين زريق اقتصار صلة التاريخ على الماضي كما يدل عليه المعنى الظاهري لهذا التعريف، ويؤكد على أنه لا يمكننا أن نفصل بالقطع بين ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، على اعتبار أن الحياة البشرية وحدة متكاملة في ماضيها وحاضرها ومستقبلها[15]. فكل ما هو حاضر اليوم، هو ماضٍ غداً، وكل ما هو مستقبل غداً هو حاضر بعده، وماضٍ في اليوم الموالي له؛ ولا يمكن أن يرتسم المستقبل دون بصمات وآثار الحاضر، ولا يمكن للحاضر أن يرتسم بدوره دون فعل ونتائج الماضي.
ويغوص رانكه[16] في جوهر التاريخ، فيحدد موضوعه ويصف طبيعته التي لا يمكن أن تتحقق إلا إذا كانت الكتابة التاريخية حية ومثمرة، ولا يمكن أن تكون بهذه الطبيعة إلا إذا اشتملت على المبادئ التالية:
1. الشعور بالفرد، على اعتبار أنه الوحدة الأساسية في المجتمع ومحور الأحداث.
2. الشعور بالقوى الباطنية التي تشكل الأحداث وتحركها.
3. إدراك تطور كل حدث أو فعل من الأفعال الإنسانية الخاص به.
4. الشعور بالأسس العامة للحياة التي تجمع بين كل العناصر السالفة الذكر[17].
وأخيراً نكون قد وضحنا "طبيعة علم التاريخ" وحددناها من خلال:
– "موضوعه" الذي يشتمل على النواحي السياسية والحضارية؛
– و"عامل الزمن" الذي يجب أن يشتمل الماضي والحاضر والمستقبل.
– و"عامل الحيوية" و"الفائدة".
  • ب. فائدة دراسة وتدريس علم التاريخ:
لإدراك فائدة التاريخ وقيمة مجهودات دارسي التاريخ ومدرِّسيه يكفي أن نتصور إنسانية من غير ذاكرة، ونعيش حاضراً ثم مستقبلاً فحسب، وتلغي إلغاءً تاماً كل ما هو ماضٍ وآثاره.
يبذل المؤرخ جهوداً مضنيةً في تسجيل كل ما يتعلق بالنشاط الإنساني، ويستغرق في عناء عمله صابراً، ويراكم المعارف دون توقف، وهو يفكر في الجهد اللازم بذله، عاقداً النية عليه، متوسلاً بالمناهج الكفيلة بتحقيق غايته، مواظباً على كل هذه العملية المعقدة وهو يفكر في "منفعة التاريخ"؛ أي الجدوى من عمله وفائدته[18].
لقد تم البحث عن فائدة التـاريخ منذ القدم، وأول كتـابة وصلتنـا في تاريخ الكتابة التاريخية هي لأبي التاريخ هيـرودوت Herodote (484-431 ق.م.) في مقدمة كتابه الموسوم بـ "لوجوس" Logos باليونانية، وتعني قصةً أو تاريخاً، وترجمت إلى اللاتينية بـ "هيستوريوس" Histories. استخلص هيرودوت فائدة التاريخ من خلال ما أرخه كما يلي:
"الذي تعلمه هيرودوت الهاليكارناسي عن طريق البحث، تجده هنا ماثلاً بين يديك، وذلك حتى لا تنطمس ذكرى الماضي في أذهان الرجال على مر الأيام. وحتى لا تفتقر تلك الأعمال العظيمة الرائعة التي اضطلع بها اليونانيون والأجانب إلى من يظهرها للملأ"[19].
  • ويقول في مقدمة كتابه أيضاً:
"إن الماضي هو فعل الماضي، وأن الماضي تكمن فائدته للحاضر في أنه مرشد للمستقبل"[20].
ويقول في مقدمته في موضع آخر:
"إن التاريخ يخدم الإنسان بحقيقة الإنسان"[21].
  • وهكذا يتبين لنا أن هيرودوت رأى للتاريخ –من خلال ممارسته– ثلاث فوائدة هي:
1. تسجيل ذكريات ماضي أمة اليونان والأمم الأخرى لتخليدها.
2. صلة الماضي بالحاضر، وفائدة هذا الأخير في أنه مرشد للمستقبل.
3. أن التاريخ يُعرِّف الإنسان بحقيقته من خلال ماضيه ليستدل بذلك إلى مستقبله بصورة أفضل.
ونعرج على الحضارة الإسلامية؛ فنستمد منها شذراً مما يدل على إدراك المؤرخين المسلمين "لفائدة التاريخ". لقد أوردنا في العنصر السابق نصوصاً من مقدمة ابن خلدون، استدللنا بها على علمية التاريخ، لكنها احتوت أيضاً على عبارات صريحة ضمنها أوضحت فائدة علم التاريخ، ولتجنب التكرار، فالأمر يستدعي الرجوع إليها في موضعها. ونورد في هذا المقام نصًّا للمؤرخ السخاوي (توفي سنة 902هـ)؛ الذي عاش في العصر التالي على ابن خلدون؛ الذي تتلمذ عليه من خلال كتبه. يقول السخاوي بشأن فائدة التاريخ ما يلي:
"أما فائدته (التاريخ) فهي معرفة الدهور على وجهها، وهو يذكر أخبار الأنبياء صلوات الله عليهم وسننهم، فهو مع أخبار العلماء ومذاهبهم، والحكماء وكلامهم، والزُّهَّاد والنُّسَّاك ومواعظهم عظيم الغناء، ظاهر المنفعة. فما يصلح به الإنسان أمر معاده ودينه وسريرته في اعتقاده، وسيرته في أمور الدين، وما يصلح به أمر معاملاته ومعاشه الدنيوي.
وكذا ما يُذكَر فيه من أخبار الملوك وسياساتهم، وأسباب مبادئ الدول وإقبالها، ثم انقراضها، وتدبير أصحاب الجيوش والوزراء وما يتصل بذلك من الأحوال التي يتكرر مثلها وأشباهها أبداً في العالم، عزيز النفع، كثير الفائدة بحيث يكون من عرفه كمن عاش الدهر كله وجرَّب الأمور بأسرها، وباشر تلك الأحوال بنفسه؛ فيغزر عقله ويصير مجرباً غير غرٍّ ولا غُمَر"[22].
من خلال هذا النص يتبين لنا أن السخاوي يرى للتاريخ ثلاث فوائد هي:
يستفيد رجال الشرع الإسلامي من التاريخ لمعرفة سير الأنبياء والرسل والعلماء والحكماء والزهَّاد.
يستفيد الحكام والأمراء والوزراء وقادة الجيوش من التاريخ باستخلاص العبر من الدول السابقة.
يسترشد الدارسون والعارفون بمعرفة الماضي، فيعززون عقولهم وتزيد تجاربهم، ويقوى ذكاؤهم.
وبعد مرور المراحل والعهود التاريخية التي قطعها "التاريخ" و"الكتابة التاريخية" حتى عصرنا الحاضر، نلاحظ على ضوء تلك التطورات أن كل عالم أو أديب أو فنان لا يمكنه أن يستغني في عمله عن أخذ الماضي بعين الاعتبار، والتأثر به إلى حد قريب أو بعيد، والاسترشاد به ليسير متطوراً نحو الأفضل. فكل العلوم، سواء التجريبية منها أو الاجتماعية الأخرى، تهتم بماضي الحقائق المتعلقة بموضوعها، وتنظر إليها كأحداث ومنطلقات، وبالتالي فهي كلها تحتاج إلى التاريخ، لأن التاريخ مُنساب في شتى العلوم والآداب، مرتبط بها ومتفاعل معها[23].

المنهج التاريخي:

يقصد به الوصول إلى المبادئ والقوانين العامة، عن طريق البحث في أحداث التاريخ الماضية، وتحليل الحقائق المتعلقة بالمشكلات الإنسانية والقوى الاجتماعية التي شكلت الحاضر، ويرجع الباحث إلى التاريخ عبر محاولة تأكيد الحوادث الفردية (المنفردة) وغيرها إلى تصوير الأحداث والشخصيات الماضية بصورة تبعث فيها الحياة من جديد، وإنما يحاول تحديد الظروف التي أحاطت بجماعة من الجماعات وبظاهرة من الظواهر منذ نشأتها لمعرفة طبيعتها وما تخضع له من قوانين، ولا يمكن لباحث أن يفهم الماضي إلا إذا مر بمرحلتين أساسيتين وهما مرحلتي التحليل والتركيز.
تبدأ المرحلة الأولى بجمع الوثائق ونقدها والتأكد من شخصية أصحابها وتنتهي إلى تحديد الحقائق التاريخية الجزئية، ثم تبدأ المرحلة الثانية ويحاول فيها الباحث تصنيف هذه الحقائق والتأليف حينها تأليفاً عقلياً.
من أجل أن يصبح التاريخ دراسة تستحق كل الجهد الذي يبذله الإنسان فيه هناك أربعة أسئلة يحسن أن نسألها لأنفسنا، ثم نحاول الإجابة عنها، وهذه الأسئلة هي:
ما هو التاريخ؟ وما هو موضوعه؟ وما هو أسلوبه؟ وما هو هدفه؟

مفهوم البحث التاريخي:

إن التاريخ هو نوع من أنواع البحث العلمي؛ إذ هو يندرج تحت ما نسميه "العلوم"، والعلم بصفة عامة لا يخرج عن كونه محاولة لتركيز الجهد حول شيء لا نعرفه، فالعلم هو الكشف عن حقيقة الأشياء، وهذا هو المعنى المقصود من أن التاريخ علم.
والتاريخ يبحث عن أسباب تسلسل الظواهر ويحاول ربطها إلى بعضها وتعليلها تعليلاً يقبله العقل. والإنسان هو الوحدة التي يدور التاريخ حولها، وكل جهد يحاول به صاحبه أن يعزل فئة من الناس خارج تاريخ الإنسان، إنما هو جهد فاشل. والخلاصة أن التاريخ له منهج خاص غايته بلوغ المعرفة عن طريق تسلسل الحوادث لا عن سبيل وضع القوانين المجردة؛ فهو علم، والتاريخ يحتاج أيضاً إلى خيال كاتبه وقدرته الأدبية؛ فهو أدب أيضاً.
إن التاريخ لا يمكن أن يكون ولا يستطيع أن يكون غير الإجابة عن أسباب ومنشأ الحالة الحاضرة التي نعيشها والأسباب التي وصلت بدنيانا إلى ما نراها عليه الآن.

أهداف البحث التاريخي

كأي علم آخر من العلوم، هو الكشف عن فرع معين من الحقائق، وهذا النوع هو جهود الإنسان ومنجزاته في الماضي، وبصورة أدق أن التاريخ هو العلم الذي يحاول الإجابة عن الأسئلة التي تتعلق بما بذلته الإنسانية من جهود منذ كانت.
إن الهدف من البحث التاريخي هو صنع معرفة علمية من الماضي الإنساني. ونعني بالعلمية أنها تستند إلى طرائق عقلانية توصل إلى الحقيقة بقدر ما تسمح به الظروف التي تخضع لها. وهي ظروف تقنية؛ "طبيعة الوثائق المستخدمة ووجودها"، وظروف منطقية؛ "تلك التي تحللها نظرية المعرفة".

مميزات البحث التاريخي:

منهج البحث فيه هو تفسير الوثائق، والوثيقة هي الشيء الذي يرجع إلى زمان ومكان معينين، وتحمل معلومات ذات طابع خاص يفكر المؤرخ فيه ويعمل على تفسيره.
وبعبارة موجزة –وقوف الإنسان على حقيقة نفسه– وليس معنى هذا أن يعرف مميزاته الشخصية التي تفرق بينه وبين غيره من الناس، وإنما المقصود هو أن يعرف الإنسان طبيعته كإنسان، وما يستطيع أن يعمل وأن يقدم لبني جنسه، وهذا غير ممكن إلا إذا عرف الإنسان ماذا فعل في الماضي، وما هي الجهود التي بذلها فعلاً. وإذن فقيمة التاريخ ترجع إلى أنه يحطنا علماً بأعمال الإنسان في الماضي ومن ثم بحقيقة هذا الإنسان.

مقومات البحث التاريخي:

إن التاريخ علم ضروري للشعوب والأفراد على السواء؛ فلا بد للفرد أن يعرف نفسه بوقوفه على ماضيه، ولا بد لكل شعب أن يعرف تاريخه ليربط حاضره بماضيه، ويصبح جديراً بالحياة، ولا بد أن يدرس التاريخ دراسة عميقة.
ومن اللزوميات أن تتم كتابة التاريخ على خير وجه فيكون الكاتب دقيقاً غاية الدقة باذلاً كل ما في طاقته من جهد وصدق وأمانة وعدل مستعيناً بكل ما لديه من إحساس وفن وذوق، هذا كل يؤدي إلى الوصول إلى الحقيقة قدر المستطاع. ومن هنا كان لا بد أن تتوفر فيمن يتصدى لكتابة التاريخ مجموعة من الصفات والمميزات، وأن تتاح له الظروف التي تجعله قادراً على الدراسة.
وأول صفة ينبغي أن يتحلى بها كاتب التاريخ ليصبح مؤرخاً هي حب الدراسة والصبر. فقد يكون البحث وعراً شاقاً، وقد تكون المصاعب التي تعترض الباحث أثناء عمله مصاعب جمة وكبيرة؛ كندرة المصادر وغموض الوقائع والحقائق، ذلك كله لا ينبغي أن يصد الباحث عن بذل الجهد والصبر على مواصلة الدراسة.
ولا بد أن يكون المؤرخ أميناً شجاعاً؛ فلا يكذب باصطناع الوقائع، ولا يزيف في تفسيرها، ولا ينافق لإرضاء صاحب أو سلطان؛ فلا رقيب على المؤرخ إلا ضميره. وإذا قلنا بأن التاريخ علم نقد وتحقيق فلا بد من أن يكون المؤرخ ناقداً نافذ البصيرة قادراً على تحليل كل وثيقة تصادفه.
أن يكون المؤرخ مولعاً بعمله من أجل هذا العمل بذاته، لا سعياً وراء شهرة أو فائدة مادية، عليه أن يتفرغ لما يدرس تفرعاً تاماً.
ومن الصفات التي لا غنى عنها في كل من يريد أن يكون مؤرخاً عدم التحيز أو الميل مع الهوى، فلا بد للمؤرخ أن يحرر نفسه تماماً من عواطفه وميوله الشخصية وأن يصدر أحكامه بصورة موضوعية على أساس ما بين يديه من أدلة ووثائق.
ومن صفات المؤرخ أن يكون صاحب حس مرهف وعاطفة إنسانية واضحة حتى يستطيع أن يدرك نوازع الآخرين ويتمكن من تفسير أعمالهم وتصرفاتهم والدوافع التي دفعتهم. تلك هي الصفات الرئيسية التي ينبغي أن تتوافر في من يريد أن يكون مؤرخاً.

العلوم المساعدة في البحث:

يتصل التاريخ اتصالاً وثيقاً بكثير من صنوف العلوم الإنسانية، ومن يتصدى لكتابته لا بد عليه من تحصيل هذه المعارف. ونحن نسمي هذه المعارف بالعلوم المساعدة:
– الواقع أن اللغات تأتي في مقدمتها جميعاً، لأنه من الضروري معرفة اللغة الأصلية الخاصة بموضوع البحث التاريخي؛ أعني أن الذي يريد ناحية من نواحي التاريخ الجزائري للثورة لا يستطيع أن يفعل ذلك إلا إذا تعلم اللغة الفرنسية، والذي يريد الكتابة في موضوع من موضوعات التاريخ الروماني القديم لا بد أن يعرف اللاتينية، ذلك هو السبيل الوحيد الذي يمكن الدارس من قراءة النصوص الأصلية بلغتها الأصلية، وينبغي على الباحث أيضاً أن يكون عارفاً بأكثر من لغة من اللغات الأوروبية الحديثة الشائعة لأن اللغات الأوروبية كلها غنية بتراثها التاريخي.
ويأتي بعد ذلك علم قراءة الخطوط Paleography؛ فهو علم لازم لدراسة التاريخ القديم والوسيط، بل ولدراسة الفترات المبكرة من التاريخ الحديث، وتبدو لنا أهمية هذا واضحة جلية حين نتصدى لدراسة تاريخ العرب قبل الإسلام، وتاريخ العصور الوسطى. وعن طريق هذا العلم نستطيع أن نحدد تاريخ هذه الوثيقة، وليس هناك ثمة شك في أن معلوماتنا سوف تظل قاصرةً عن قرون كاملة وطويلة من تاريخ البلاد؛ التي خضعت للعثمانيين ومنهم الجزائر ما لم يوجد من يدرس خط القيرمة مثلاً الذي دونت به وثائق النظم الإدارية والمالية في ظل الحكم العثماني.
– ومن العلوم المساعدة الهامة للمؤرخ "علم النوميات" أو علم النقود المسكوكة. فالعملة القديمة تحمل عادة صوراً للآلهة التي كان الناس يعبدونها، كما تحمل صوراً للملوك والأمراء وأسمائهم، وهذه كلها تمد الباحث بمادة أصلية عن العصور القديمة والعصور الوسطى على السواء.
– أما الجغرافيا فإنها من المواد المساعدة التي لا يستغني عنها الباحث في التاريخ، ذلك أن الارتباط بين الجغرافيا والتاريخ ارتباط عضوي وثيق؛ فالأرض هي المسرح الذي مثِّلت فوقه الأحداث التاريخية. إن الناس في أية بيئة من البيئات يتفاعلون معها تفاعلاً تلقائياً على الطبيعة الجغرافية لهذه البيئة، ومن ثم يتشكل تاريخهم تشكلاً يرتبط ببيئتهم. ومن أبرز الأمثلة على أثر الطبيعة الجغرافية في تاريخ قوم من الأقوام هو مصر والنيل هو مصدر حياتها، وهو الذي شكل تاريخها.
– وينبغي لأن يلم بعلم الاقتصاد إلماماً يمكنه من الوقوف على مدى تأثير العوامل الاقتصادية على مسار التاريخ. فنحن نعرف أن السياسة الداخلية لدولة من الدول تعتمد اعتماداً كبيراً على مدى تراثها الطبيعي ونشاطه التجاري. وطريقة توزيع الثروة الطبيعية في بلد ما تحدد عامة نوع الحكم فيها، وفضلاً عن ذلك فإن الرخاء الاقتصادي يؤثر تأثيراً على النواحي السياسية والعكس صحيح.
– والأدب من العلوم المساعدة التي يلزم المؤرخ أن يلم بها؛ فأدب القوم هو مرآة حياتهم وحضارتهم، وهو التغبير الصادق عن أفكارهم وعواطفهم الإنسانية.
- ويجب أيضاً الإحاطة بفنون الرسم والتصوير والنحت والعمارة في عصر من العصور لأنه مسألة ضرورية بالنسبة للباحث وتاريخه. إن آثار مصر القديمة والعراق القديم كلها تعطينا صوراً واضحةً لحضارات هذه البلاد وتمدنا بفيض من المعلومات من تقاليد أصحابها وحياتهم الإجتماعية.

قائمة الـمصادر والمراجع:

  • باللغة العربية:
1. أرنست كاسيرو: دراسات في المعرفة التاريخية، ترجمة أحمد حمدي محمود، دار النهضة العربية، القاهرة، د.ت.
2. جورج ساتورن: تاريخ العلم، ترجمة مجموعة من الأساتذة، دار المعارف، القاهرة، 1978، ج2.
3. جوزف هورس: قيمة التاريخ، ترجمة نسيم نصر، منشورات عويدات، بيروت، ط3، 1986.
4. السخاوي: الإعلان بالتوبيخ.
5. قسطنطين زريق: نحن والتاريخ، دار العلم للملايين، بيروت، ط4، 1979.
6. كولنجوود: فكرة التاريخ، ترجمة محمد بكير خليل، القاهرة، 1961.
7. محمود قاسم: المنطق الحديث ومناهج البحث، القاهرة، 1949.
8. هرنشو: علم التاريخ، ترجمة عبد الحميد العبادي، القاهرة، 1937.
  • باللغة الأجنبية:
1. Myres, J. L. : Herodotus, Father of History, Oxford, 1953.
2. Réné Roémond : Introduction à l’histoire de notre temps, éditions du Seuil, Paris, 1977, T.3.
3. Rowse, A. L. : The Use of History, London, 1946.
4. Shotwell T. : The History of History, New York, 1950.
5. Stern Fritz : The Varieties of History, Cleveland, USA, 1961.
[1]. السخاوي: الإعلان بالتوبيخ، ص 17
[2]. هو John Bagnell Bury، كان أستاذ اللغات القديمة قبل انشغاله بالتاريخ. تأتي شهرته في التاريخ من كتاباته عن الفترة المتأخرة من تاريخ الإمبراطورية الرومانية والعصر البيزنطي. كما كتب في "موسوعة كمبردج" Cambridge Ancient History. كان في شبابه مهتماً بالفلسفة؛ خاصة بفلسفة هيجل، ثم تحول عنها إلى المشاكل الفلسفية في الدراسات التاريخية. وفي سنة 1902 ألقى محاضرته المذكورة أعلاه بعنوان: "علم التاريخ" The Science of History.
[3]. Rowse, A. L. : The Use of History, London, 1946, p.86
[4]. Stern Fritz : The Varieties of History, Cleveland, USA, 1961, p.214, 223
[5]. كولنجوود: فكرة التاريخ، ترجمة محمد بكير خليل، القاهرة، 1961، ص ص 41-42
[6]. Shotwell T. : The History of History, New York, 1950, p. 9
[7]. محمود قاسم: المنطق الحديث ومناهج البحث، القاهرة، 1949، ص 236
[8]. هرنشو: علم التاريخ، ترجمة عبد الحميد العبادي، القاهرة، 1937، ص ص 2-3
[9]. كولنجوود: فكرة التاريخ، ص 44
[10]. محمود قاسم: المنطق الحديث ومناهج البحث، ص 236
[11]. Réné Roémond : Introduction à l’histoire de notre temps, éditions du Seuil, Paris, 1977, T.3 (couverture)
[12]. أرنست كاسيرو: دراسات في المعرفة التاريخية، ترجمة أحمد حمدي محمود، دار النهضة العربية، القاهرة، د.ت.، ص 71
[13]. واسمه الحقيقي François-Marie Arouet، وهو فرنسي (1694-1778).
[14]. المرجع السابق، ص 68
[15]. قسطنطين زريق: نحن والتاريخ، دار العلم للملايين، بيروت، ط4، 1979، ص ص 48-50
[16]. هو المؤرخ الألماني ليوبولد فون رانكه Leopold Von Ranke (1795-1886)
[17]. أرنست كاسيرو: دراسات في المعرفة التاريخية، ص 13
[18]. جوزف هورس: قيمة التاريخ، ترجمة نسيم نصر، منشورات عويدات، بيروت، ط3، 1986، ص114
[19]. جورج ساتورن: تاريخ العلم، ترجمة مجموعة من الأساتذة، دار المعارف، القاهرة، 1978، ج2، ص157
[20]. Myres, J. L. : Herodotus, Father of History, Oxford, 1953, p.66
[21]. جوزف هورس: قيمة التاريخ، ص 23
[22]. السخاوي: الإعلان بالتوبيخ، ص32
[23]. قسطنطين زريق: نحن والتاريخ، ص ص50-51


تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -
    news-releaseswoman