الدكتور محمد فتحي الحريري - سوريا
وفي الحديث الشريف : "إن أبغضَكم إليَّ الثَّرثارون والمتشدقون والمتفيهِقُون" ، واحدهم مُتفيهِق . وسئل عنه النبي صلى الله عليه وسلم : قد علمنا المتشدقين والثرثارين فمن هم المتفيهقون ؟ قال : " المتكبرون " ، والدلالة واضحة فمن استكبر فقد تعالـى وامتلأ حقداً وبغضاً للناس ، بل يصل حدُّ الاستكبار عند بعضهم أنه يكره نفسَـــهُ !
وقال الخليل في كتاب العين : الفَيْهق ، الواسعُ من كلِّ شيء، حتى يقالُ مفازةٌ فيهق . قال : ومُنفَهـق الوادي : متَّسَعُـه . ومما شذَّ عن هذا الأصل: الفَهْقَة: عظمٌ عند فائق الرَّأس مشرفٌ على اللَّهاة . وذكر الجوهري في الصحاح ما قالـه الفراء: فلانٌ يَتَفَيْهَقُ في كلامه، وذلك إذا توسَّع فيه وتنطَّع . قال: وأصله الفَهَـقُ، وهو الامتلاء، كأنَّه ملأ به فمه ، ومنه نرى أن عبارة الخليل بشذوذ الفهـقـة عن الأصـل غير دقيقـة تمامـاً ، لأنّ عظم الفهـقـة هو آخر عظام العـمـود الفقاري في الثدييات ، فهو أعـلاهـا من جهة ، ومن جهة أخرى فالفهـقةُ عظم عند فائق الرأس مشرف على اللَّهـاة ، والجمع من كل ذلك فِهَاقٌ ، وهو العظم الذي يسقط على اللهاة فيقال فُـهِـقَ الصبيُّ ؛ قال رؤبة : " قد يَجَأُ الفَهْقَةَ حتى تَنْدَلِقْ " يَجَأُ ( أي يطعن ) يطعـنُ القَفا حتى تسقط الفَهْقةُ من باطن . وعند حدوث ذلك فما الذي يحدث ؟ الجواب : يمتلئُ المكان دمــاً ، تتسع دائرة وجوده ونزفه !!!
أما الفقـهُ ( ف ق هـ ) : فهو العلم بالشيء والفهمُ له ، وغلبَ على عِلْم الدين لسِيادَتِه وشرفه وفَضْلِه على سائر أَنواع العلم كما غلب النجمُ على الثُّرَيَّا والعُودُ على المَنْدَل ؛ قال ابن الأَثير: واشْتِقاقهُ من الشَّقِّ والفَتْح ، وقد جَعَله العُرْفُ خاصّاً بعلم الشريعة، شَرَّفَها الله تعالى ، وتَخْصيصاً بعلم الفروع منها . قال غيره: والفِقْهُ في الأَصل الفَهْم. يقال : أُوتِيَ فلانٌ فِقْهاً في الدين أَي فَهْماً فيه. قال الله عز وجل : ((فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ )) [ سورة التوبة : 122 ] ؛ قوله تعالى : ليتفقهوا : أَي ليَكونوا عُلَماء به، وفَقَّهَه اللهُ ؛ ودعا النبي، صلى الله عليه وسلم، لابن عباس فقال : " اللهم عَلِّمْه الدِّينَ وفَقِّهْه في التأْويل " أَي فَهِّمْه تأْويلَه ومعناه ، فاستجاب الله دُعاءه، وكان من أَعلم الناس في زمانه بكتاب الله تعالى . فالفقيه هو العالِـم .
وفَـقِـه ( بكسر القاف ) فِقْهـــاً : بمعنى عَلِم عِلْماً . ابن سيده: وقد فَـقُـه فَقاهَةً وهو فَقِيهٌ من قوم فُقَهاءَ ، ويُقال للسيدة : فَـقِـيهة مِنْ نِسْوةٍ فـقـائِـهَ . وأجاز اللحياني أن نقول نسوة فقهاء ، وقيل هو نادر ولم يجيزوا نسوة فقيـهـات ، وفي حديث سَلْمان : أَنه نزل على نَبَطِيَّةٍ بالعـراق فقال لها : هل هنا مكانٌ نَظيف أُصَلي فيه؟ فقالت : طَهِّرْ قَلْبَك وصَلِّ حَيْثُ شِئْتَ ، فقال سلمان : فَقِهَتْ ( بكسر القاف ) أَي فَهِمَتْ وفَطِنَتْ للحقِّ والمَعْنى الذي أَرادَتْ ، وقال شمر: معناه أَنها فَقِهَتْ هذا المعنى الذي خاطَبَتْه، ولو قال فَقُهَتْ ( بضم القاف ) كان معناه صارَت فَقيهةً . يقال : فَقِهَ عَنِّي كلامي يَفْقَه أَي فَهِمَ ، وما كان فَقيهاً ولقد فَـقُـه وفَـقِـه . وهكذا فرقوا بين ( فقِـهَ) و ( فَـقُـهَ ) !
المقام : فلانٌ لا يَفْقَهُ ولا يَنْقَهُ . معناه لا يَعْلم ولا يَفْهَم . نَقِهْتُ الحديثَ أَنْقَهُه إذا فَهِمْته . وفي الحديث الشريف : لعَنَ اللهُ النائحةَ والمُسْتَفْـقِـهةَ؛ هي التي تُجاوِبُها في قولها لأَنها تتَلَقَّفُه وتتَفَهَّمُه فتُجيبها عنه. ابن بري: الفَقْهةُ المَحالةُ في نُقْرة القفا؛ قال الراجز: وتَضْرِب الفَقْهةَ حتى تَنْدَلِق قال: وهي مقلوبة من الفَهْقة التي تحدثنا في دلالاتها آنفـا .
وأصل الفقه – كما أظن – الحذق والمهارة والدراية الكاملة في الممارسة ، قال عيسى بن عمر : قال لي أَعرابي شَهِدْتُ عليك بالفِقهِ أَي الفِطْنةِ . وتقول العرب : فَـحْـلٌ فَقيهٌ ، طَبٌّ بالضِّراب حاذِقٌ ومتمرِّن فاهم بأصوله وأساليبه . والعكس الغـرّ .
وهكذا فهناك جدل قائم بين ( ف ق هـ ) و ( ف هـ ق ) يشير الى أصالة هذه اللغة وعراقتها ودقتها في التعبير عن أدقّ الأشـياء ... ولبيان هذا الجدل وجذوره ، ننظر الى مخارج حروف كل جذر من هذه الجذور ، وحتى يتم ادراك قيمة هذا التحليل أذكر بادئ الأمر بمخارج الحروف عموما وهي سبعة عشر مخرجـاً :
- الجوف :- وهو فضاء الحلق , والفم مخرج الحروف المَدِّية ( و ، ا ، ى ) ويسمى هذا مخرجا مقدراً ، لا نتهاء صوت حروفه فى الهواء – وباقى المخارج محقق .
- آخر الحلق :- عن اللبة مخرج الهمزة والهــاء .
- وسط الحلق :- مخرج العين والحاء المهملتين.
- أول الحلق :- مخرج الغين والخاء المعجمتين.
- آخر اللسان عند اللهاة :- مخرج القــاف .
- آخر اللسان عند اللهاة اسفل من القاف الى الخارج :- مخرج الكاف .
- وسط اللسان :- مخرج الجيم والشين والياء غير المدية.
- آخر حفتى اللسان عند الاضراس :- مخرج الضاد .
- أول احدى حافتي اللسان عند الضاحك والناب والرباعيةوالثنية ، مخرج اللام.
- طرف اللسان تحت مخرج اللام :- مخرج النون .
- طرف اللسان تحت مخرج اللام أدخل الى ظهره من النون ،مخرج الراء.
- طرف اللسان مع قرب الثنيتين السفليتين :- مخرج الصاد والزاى والسين .
- طرف اللسان مع لثة الثنيتين العليين :- مخرج الطاء والدال المهملتين والتاء الفوقية.
- طرف اللسان مع أطراف الثنايا جميعها بانطباقها عليه :- مخرج الظاء والذال المعجمتين والثاء المثلثة.
- طرف الثنيتين العليين مع باطن الشفة السفلى ، مخرج الفــاء .
- باطن الشفتين :- مخرج الواو والباء والميم .
- الخيشوم :- مخرج الغنة ، وهي صوت فى الخيشوم يلازم النون والميم المخفاتين والمشدتين والمدغمتين بحيث لو أغلقنا الأنف لم يخرج صوت الغنة ولمعرفة هذا أهمية عند علماء التجويد .
ولنلاحظ في ( ف ق هـ ) ، مراحله الصوتية بدءاً من طرف الثنيتين العليين مع باطن الشفة السفلى ، مخرج الفــاء ، ثم التراجع إلى آخر اللسان عند اللهاة ، مخرج القــاف ، ثم رجوع إلى آخر الحلق مخرج الهــاء . فالحركة تراجعية من الشفة الى آخر اللسان الى أقصى الحلق .
ثم لنلاحظ في ( ف هـ ق ) ، مراحله الصوتية بدءاً من الفاء ثم الهاء من آخر الحلق والعودة إلى مخرج القاف اللهوي ، فالحركة الصوتية في ( ف ق هـ ) سالبة كلها تراجعية ، بينما هي في ( ف هـ ق ) تقطع أقصى مسافة ممكنة بين حرفين ( من الشفة السفلى الى آخر الحلق ) ثم تنطلق الى مخرج القاف اللهوي . تراجع فانطلاق للامام . وهذا البيان الفيزيائي لتشكيل صوت الجذر ( فـهـق ) يشير الى الاتساع الكامن في معنى ودلالة الجذر ، ويُفسِّـر إطلاق العامة مُسَـمَّى " الفهاق \ الفواق \ الفهقة " على " الحزقـة " ، أما الجذر الثلاثي ( فـقـه ) فلا يتضمن هذه الاشارة لأن الفقه مَـلَـكَـة علمية معرفية ومهارية في استنباط الأحكام ، وهي تتشكل في الانسان على مراحل ، وكلما قطع صاحبها مرحلة أحَسَّ أنه قد تجاوز الجهل ، لذا كانت المراحل الصوتية( مخارج الحروف\ المبنـى الفيزيائي ) متناغمة ومتراسلة مع المعنى الدلالي للجذر ، ولقد لاحظ الأولون هذا فخصـوا الجذر ( ف ق هـ ) بعلم الشريعة وحده إشارة الى شـرفه وعُـلـوّ مقامه ...
هفق ، قـفـه ، قـهـف : جذور مهجـــــــــــورة . أما الثلاثي الأخير منها هـقـف : فقال عنه في العباب الزاخر نقلا عن ابن عباد ، هو قلة شـهـوة الطعام ، ونقل صاحب اللسان عن ابن سيده أنه ليس بثبت . فكأننا نطمئن إذا قلنا أن العائلة ليس فيها إلا جذران اثنان هما (فقه ، فهق) ! وبالتالي فما بين المتفيهق المتكبر وبين المتفيقه ، مدعي الفقه والفقه منه براء ، هو خيط رقيق رفيع ، يشي بالانتماء إلى عائلة واحدة ،،، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه والتابعين ومن ســـار على منهجه الى يوم الدين ...
أكتب تعليقك هتا