النحت والاختصـــار في لغـة الجذور

الدكتور محمد فتحي الحريري - سوريا من أساليبنا في الاختصار خلال الدراسة الجامعية ، اسلوب الترميز ، فقد كنا نكتب خلف الدكتور محاضرته ، ولم تكن هناك آلات تسجيل او تصوير أو .....ونخرج بمسودة من الورق ذات منظر مضحك وشكل مفزع مثل خريطة وشخبطات الصغار ، نعيد كتابتها في البيت ونفـرغ تلك الرموز والمعلومات في أوراق تتحول الى شبه كتاب نسميه ( النوطـة ) ، وفيه قَدَر من الرموز المتفق عليها بين الجميع ، ومن هـذه الرموز الاختصــاريـة لا أزال أذكــر : ج ع م : الجملة العصبية المركزيــة . ف ك : الفيزياء الكيميائيـة . ك ص : الكيميــاء الصيدلانيــة ... ا د ج : آثار الدواء الجانبيــة . ن ع م : نصف عُـمـر المادة ( الدواء ) ....... وهكذا ، والحاجة أم الاختراع . وكبرنا وعرفنا أن هذا الاسلوب الاختزالي في البيان يُسمى النحت ، وله أرومته في لغة الجذور ، فالعرب يقولون في مختصراتهم عبارات كثيرة تشير الى معان أطول : سبحل : قال "سبحان الله " ، حوقل : قال " لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم " ، حيْعَـلَ : قال " حي على الصلاة ، حيَّ على الفلاح " ...... وهكذا . ويروى عن سيدنا عليّ بن ابي طالب كرَّم الله وجهه ، قوله " ما تسرولْ قَمْتُ قط ، وما ترعبلبنْـتُ قط " وتعني : ما لبستُ السروال قائمــا قط ، ولا شربتُ اللبن يوم الاربعاء قط . وقد نسج الأولون على هذا المنوال فأتوا بعبارات مختصرة لعباراتٍ أطول ، وتابع المتأخرون وفق النمط نفسه ، مؤكدين مرونة اللغة العربية . ومن اختصارات العرب المعاصرة ما تابعوا به الغربيين في تسمية متلازمة نقص المناعة بالايــدز ، أو السـيـدا ، وعبارة ( المجوقل ) للمنقول جوّا في العلوم العسكرية ، وسمّوا الجمهورية العربية المتحدة بــ( ج ع م ) ودولة المجنون الليبي القذافي الهالك ( ج ع ل إ ع ) اي : الجماهـيـريــة العـربيـــة الليبيــة الاشتراكيــة العظمى) ، فالنحت هو جعل كلمتين أو أكثر في كلمة واحدة طلبا للاختصار والإقتصاد اللفظي ، وهو في العربية ضربان : إضافي وجُملي ؛ فالإضافي يقوم على حذف حرف صامت أو أكثر من الإسم الأقل أهمية في المتضايفين وتزاد ياء النسبة عند الضرورة نحو عبدري، نسبة إلى عبد الدار وعبشمي نسبة الى عبد شمس ؛ ويجري الجملي على الكلمتين الأوليين من الجملة أو على الكلمات الثلاث الأكثــر أهمية فيها نحو البسملة ، من بسم الله الرحمن الرحيم ، أوالحوقلة من " لا حول ولا قوة إلا بالله " . والحقيقة أن النحت هو عمل لغوي عفوي ويكاد يكون ارتجالي وليس صناعة علمية ، ففي لغة الحديث منحوتات استعملها القذماء والمحدثون مثل : أيش ، وليش من عبارتين هما : أي شيء ، ولأي شيء ؟؟ ومن المؤكد أن الناحت لم يعقد مؤتمرا علميا ليعلن اختراعهما ونسبتهما اليه ، بل يغلب على المنطق أنهما جاءتا عفو الخاطر ، ولكن هناك حاجة إلى رد ِّ المختصرات العامية إلى أصولها الفصحى ككلمة معلش من جملة : ما عليه شيء .  وهنا لابدَّ من الاشارة الى أن العرب هم اصحاب الباع الطويل في هذا الاسلوب ، اسلوب الاخـتـزال ، سيقوا به الاوربيين بعصور ، ولنا أدلتنا التاريخية في ذلك ، وأبـرزهــا إضافة إلى ما قدَّمناه : كشـاجـم : من منا لم يسمع بهذا الاسم الشهير بين أعلام العرب ؟ انه أبو الفتح كشاجم ( ت 360 هـ = 970 م) واسمه الكامل محمود بن الحسين بن السندي بن شاهك أبو الفتح الرملي . شاعر متفنن أديب من كتاب الإنشاء من أهل الرملة بفلسطين فارسي الأصل كان أسلافه الأقربون في العراق وتنقل بن القدس ودمشق وحلب وبغداد وزار مصر أكثر من مرة . من مؤلفاته : (ديوان شعر -ط) و(أدب النديم -ط) و(المصايد والمطارد -ط) ( والرسائل) وغيرها ، وقد استقر في حلب ، فكان من شعراء أبي الهيجاء عبد الله والد سيف الدولة بن حمدان ثم ابنه سيف الدولة أميرَيْ حلب على التوالي . ولكن لِـمَ سُـمّي كشاجم (1)؟؟؟ هذا الاسم الغريب العجيب الذي لم نسمع له أصلا اشتُقَّ منه ولا نظيرا في لغة الاجداد !!! كشاجم اسم منحوت ، وهو مؤلف من خمسة احرف ، وكل حرف يرمز لمعنى : ك : كاتب ش : شاعر أ : أديب ، ج : جدلي م : منطقي ، فهو شاعر كاتب اديب جدليّ منطقي ، وقد قيل أنه برع في الطب بعدها فأضـافـوا إلى اسمه حرف الطاء فصار (كطشاجم ) ، الا أنه لم يشتهر باللقب الاخير . ومن الامثلة الرائـعـة والطريفــة في هذا المضـمـار مثال آخــــر ، لكنه مغــمـــور ، إنَّـــــــــــــــه : هَـيْـلانــــة : وهيلانـة ليس اسم قدِّ يـســة من القديســـات الاوروبيــات ، إنما هي جـاريـة من جـواري الخليفة العباسي هارون الرشيد رحمه الله ( 148 – 193 هـ ) ، ولا يعرف لها اسم سـواه ، وقد ماتت هيلانـة ( سنة 173 هـ ) وكانت تكثر من قولها : "هيَ إلا أنه " فَـنَـحَـتَ لها الناسُ من هذه العبارة اســماً أطلق عليها (( هيلانـة )) ولازمها ، ولمزيد البيان حول شخصيتها ، أضيف أنها لما ماتت رثـاهـا العباس ابن الاحنف رحمه الله (2) ( وهو أبو الفضل العباس بن الأحنف بن الأسود بن طلحة الحنفي اليمامي . شاعر عربي شريف النسب ، أصله من بني حنيفة ، عاش في القرن الثاني للهجرة . نشأ في بغداد وفيها اشتهر . كانت علاقته بهارون الرشيد وطيدة وكان من ندمائه المقربين ، و كان يصحبه في رحلاته وأسفاره .وكان قريبا من بلاط القصر ومن حركة الحكام والولاة ، ومع ذلك خالف باقي الشعراء في استخدامهم الشعر مطية للكسب والثراء بمدح الحكام وهجاء أعدائهم ، وكان أكثر شعره الغزل والوصف لايتجاوزه الى باقي الاغراض الشعرية ) يقول برثائهـا : يامن تباشرت القبورُ بموتهــــــــا = = = قصد الزمان مساءتي فـرما كِ أبغي الانيس قلا أرى لي مؤنســـاً = = = الا التــردد حـيـث كـنْـتُ أراكِ ملك بكاك وطال بعدك حـزنـــــــــه = = = لو يستطيع بملكِـــــهِ لفَــــــداكِ يحمي الفــؤاد عن النساء حفيظـة = = = كيلا يحل حمى الفؤاد ســــواكِ  وبقصد الشاعر بالملك الخليفة العباسي هارون الرشيد رحمه الله ، مولى الجـارية هيلانــة وهو أول خليفة حجَّ ماشياً إلى بيت الله الحرام . قلت : وكانَّ لسانَ حال الخليفة الكبير هارون الرشيد ( وهو الذي كان يحج عاما ويغزو في سبيل الله عاما ً ، رحمه الله تعالى وهو بريء مما نسبه اليه القصاصون من حكايات ماجنة ) يقول : أمسى الترابُ لمن هويْتُ مبيتــا = = = ألقِ التراب فقل له : حُيّـيـتـــــا إنا نحبُّـك يا تـرابُ ومــا بـنـــــــا = = = إلا كرامةَ من عليهِ حُـثِيـتـــــا  وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه والتابعين ، وآخـر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين . ================== الحـاشـيـــة : (1) الاعلام للزركلي وأدب الكاتب لابن قتيبة وتاريخ الادب لياقوت الحموي ووفيات الاعيان لابن خلكان . (2) ينظر المنتظم لابن الجوزي : 8 \ 353 و 8 \ 352

الدكتور محمد فتحي الحريري - سوريا

من أساليبنا في الاختصار خلال الدراسة الجامعية ، اسلوب الترميز ، فقد كنا نكتب خلف الدكتور محاضرته ، ولم تكن هناك آلات تسجيل او تصوير أو .....ونخرج بمسودة من الورق ذات منظر مضحك وشكل مفزع مثل خريطة وشخبطات الصغار ، نعيد كتابتها في البيت ونفـرغ تلك الرموز والمعلومات في أوراق تتحول الى شبه كتاب نسميه ( النوطـة ) ، وفيه قَدَر من الرموز المتفق عليها بين الجميع ، ومن هـذه الرموز الاختصــاريـة لا أزال أذكــر :
  • ج ع م : الجملة العصبية المركزيــة .
  • ف ك : الفيزياء الكيميائيـة .
  • ك ص : الكيميــاء الصيدلانيــة ...
  • ا د ج : آثار الدواء الجانبيــة .
  • ن ع م : نصف عُـمـر المادة ( الدواء ) ....... وهكذا ، والحاجة أم الاختراع .
وكبرنا وعرفنا أن هذا الاسلوب الاختزالي في البيان يُسمى النحت ، وله أرومته في لغة الجذور ، فالعرب يقولون في مختصراتهم عبارات كثيرة تشير الى معان أطول :
  • سبحل : قال "سبحان الله " ،
  • حوقل : قال " لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم " ،
  • حيْعَـلَ : قال " حي على الصلاة ، حيَّ على الفلاح " ...... وهكذا .
ويروى عن سيدنا عليّ بن ابي طالب كرَّم الله وجهه ، قوله " ما تسرولْ قَمْتُ قط ، وما ترعبلبنْـتُ قط " وتعني : ما لبستُ السروال قائمــا قط ، ولا شربتُ اللبن يوم الاربعاء قط .
وقد نسج الأولون على هذا المنوال فأتوا بعبارات مختصرة لعباراتٍ أطول ، وتابع المتأخرون وفق النمط نفسه ، مؤكدين مرونة اللغة العربية .

ومن اختصارات العرب المعاصرة ما تابعوا به الغربيين في تسمية متلازمة نقص المناعة بالايــدز ، أو السـيـدا ، وعبارة ( المجوقل ) للمنقول جوّا في العلوم العسكرية ، وسمّوا الجمهورية العربية المتحدة بــ( ج ع م ) ودولة المجنون الليبي القذافي الهالك ( ج ع ل إ ع ) اي : الجماهـيـريــة العـربيـــة الليبيــة الاشتراكيــة العظمى) ، فالنحت هو جعل كلمتين أو أكثر في كلمة واحدة طلبا للاختصار والإقتصاد اللفظي ، وهو في العربية ضربان : إضافي وجُملي ؛ فالإضافي يقوم على حذف حرف صامت أو أكثر من الإسم الأقل أهمية في المتضايفين وتزاد ياء النسبة عند الضرورة نحو عبدري، نسبة إلى عبد الدار وعبشمي نسبة الى عبد شمس ؛ ويجري الجملي على الكلمتين الأوليين من الجملة أو على الكلمات الثلاث الأكثــر أهمية فيها نحو البسملة ، من بسم الله الرحمن الرحيم ، أوالحوقلة من " لا حول ولا قوة إلا بالله " . والحقيقة أن النحت هو عمل لغوي عفوي ويكاد يكون ارتجالي وليس صناعة علمية ، ففي لغة الحديث منحوتات استعملها القذماء والمحدثون مثل : أيش ، وليش من عبارتين هما : أي شيء ، ولأي شيء ؟؟ ومن المؤكد أن الناحت لم يعقد مؤتمرا علميا ليعلن اختراعهما ونسبتهما اليه ، بل يغلب على المنطق أنهما جاءتا عفو الخاطر ، ولكن هناك حاجة إلى رد ِّ المختصرات العامية إلى أصولها الفصحى ككلمة معلش من جملة : ما عليه شيء .

وهنا لابدَّ من الاشارة الى أن العرب هم اصحاب الباع الطويل في هذا الاسلوب ، اسلوب الاخـتـزال ، سيقوا به الاوربيين بعصور ، ولنا أدلتنا التاريخية في ذلك ، وأبـرزهــا إضافة إلى ما قدَّمناه :
  • كشـاجـم : من منا لم يسمع بهذا الاسم الشهير بين أعلام العرب ؟ انه أبو الفتح كشاجم ( ت 360 هـ = 970 م) واسمه الكامل محمود بن الحسين بن السندي بن شاهك أبو الفتح الرملي .
شاعر متفنن أديب من كتاب الإنشاء من أهل الرملة بفلسطين فارسي الأصل كان أسلافه الأقربون في العراق وتنقل بن القدس ودمشق وحلب وبغداد وزار مصر أكثر من مرة . من مؤلفاته : (ديوان شعر -ط) و(أدب النديم -ط) و(المصايد والمطارد -ط) ( والرسائل) وغيرها ،
وقد استقر في حلب ، فكان من شعراء أبي الهيجاء عبد الله والد سيف الدولة بن حمدان ثم ابنه سيف الدولة أميرَيْ حلب على التوالي . ولكن لِـمَ سُـمّي كشاجم (1)؟؟؟ هذا الاسم الغريب العجيب الذي لم نسمع له أصلا اشتُقَّ منه ولا نظيرا في لغة الاجداد !!!
كشاجم اسم منحوت ، وهو مؤلف من خمسة احرف ، وكل حرف يرمز لمعنى :
  • ك : كاتب
  • ش : شاعر
  • أ : أديب ،
  • ج : جدلي
  • م : منطقي ، فهو شاعر كاتب اديب جدليّ منطقي ، وقد قيل أنه برع في الطب بعدها فأضـافـوا إلى اسمه حرف الطاء فصار (كطشاجم ) ، الا أنه لم يشتهر باللقب الاخير .
ومن الامثلة الرائـعـة والطريفــة في هذا المضـمـار مثال آخــــر ، لكنه مغــمـــور ، إنَّـــــــــــــــه :
  • هَـيْـلانــــة : وهيلانـة ليس اسم قدِّ يـســة من القديســـات الاوروبيــات ، إنما هي جـاريـة من جـواري الخليفة العباسي هارون الرشيد رحمه الله ( 148 – 193 هـ ) ، ولا يعرف لها اسم سـواه ، وقد ماتت هيلانـة ( سنة 173 هـ ) وكانت تكثر من قولها : "هيَ إلا أنه " فَـنَـحَـتَ لها الناسُ من هذه العبارة اســماً أطلق عليها (( هيلانـة )) ولازمها ، ولمزيد البيان حول شخصيتها ، أضيف أنها لما ماتت رثـاهـا العباس ابن الاحنف رحمه الله (2) ( وهو أبو الفضل العباس بن الأحنف بن الأسود بن طلحة الحنفي اليمامي . شاعر عربي شريف النسب ، أصله من بني حنيفة ، عاش في القرن الثاني للهجرة . نشأ في بغداد وفيها اشتهر . كانت علاقته بهارون الرشيد وطيدة وكان من ندمائه المقربين ، و كان يصحبه في رحلاته وأسفاره .وكان قريبا من بلاط القصر ومن حركة الحكام والولاة ، ومع ذلك خالف باقي الشعراء في استخدامهم الشعر مطية للكسب والثراء بمدح الحكام وهجاء أعدائهم ، وكان أكثر شعره الغزل والوصف لايتجاوزه الى باقي الاغراض الشعرية ) يقول برثائهـا :

يامن تباشرت القبورُ بموتهــــــــا = = = قصد الزمان مساءتي فـرما كِ
أبغي الانيس قلا أرى لي مؤنســـاً = = = الا التــردد حـيـث كـنْـتُ أراكِ
ملك بكاك وطال بعدك حـزنـــــــــه = = = لو يستطيع بملكِـــــهِ لفَــــــداكِ
يحمي الفــؤاد عن النساء حفيظـة = = = كيلا يحل حمى الفؤاد ســــواكِ

وبقصد الشاعر بالملك الخليفة العباسي هارون الرشيد رحمه الله ، مولى الجـارية هيلانــة وهو أول خليفة حجَّ ماشياً إلى بيت الله الحرام .
قلت : وكانَّ لسانَ حال الخليفة الكبير هارون الرشيد ( وهو الذي كان يحج عاما ويغزو في سبيل الله عاما ً ، رحمه الله تعالى وهو بريء مما نسبه اليه القصاصون من حكايات ماجنة ) يقول :

أمسى الترابُ لمن هويْتُ مبيتــا = = = ألقِ التراب فقل له : حُيّـيـتـــــا
إنا نحبُّـك يا تـرابُ ومــا بـنـــــــا = = = إلا كرامةَ من عليهِ حُـثِيـتـــــا

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه والتابعين ، وآخـر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .

================== الحـاشـيـــة :

(1) الاعلام للزركلي وأدب الكاتب لابن قتيبة وتاريخ الادب لياقوت الحموي ووفيات الاعيان لابن خلكان .
(2) ينظر المنتظم لابن الجوزي : 8 \ 353 و 8 \ 352
تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -
    news-releaseswoman