الدكتور محمد فتحي الحريري - سوريا
البدح \ب د ح : جذر لغوي يدل على الرخاوة والعجز ، وكما جاء في مقاييس اللغة لابن فارس رحمه الله ،الباء والدال والحاء أصلٌ واحدٌ تُرَدُّ إليه فُروعٌ متشابهة، وما بعد ذلك فكلُّه محمولٌ على غيره أو مُبْدَلٌ منه. فأمّا الأصل فاللِّين والرَّخاوَة والسُّهولة. قال الهُذَليّ:
(والجراشع كما قال الازهري : الأودية العظام ) .
ثم اشتُقّ من هذا قولُهم للمرأة البَادِن الضَّخْمة بَيْدَح . قال الطرمّاح :
وتقول العرب : رأيتهم يَتبادَحُون بالكُرِينَ والرُّمانِ والبطيخ ونحوِ ذلك عبثاً وممازحة. فهذا الأصل الذي هو عمدة الباب . وأمّا الكلماتُ الأُخَر فقولهم : بدحَه الأمرُ، وإنما هي حاءٌ مبدلة من هاء، والأصل بدَهَهُ وانما أُبْدِلت لاعتبارات جمالية كما أظن ..
وكذلك قولهم ابتدحت الشيءَ( عند بعض القبائل العربية )، إذا ابتدأتَ به من تِلقاءِ نفسك، إنما هو في الأصل ابتدَعْت واختلقْت وابتدأت . قال الشاعر :
(والسَّمَيْدع بفتح السين : الكريم السَّيِّدُ الجميل الجسيم المُوَطَّأُ الأَكناف ، والأَكنافُ النواحي أي متواضع ، وقيل: هو الشُّجاعُ ، وأنبِّـهُ ثانية : لا تقل السُّمَيْدع بضم السين ، بل بفتحها ).
فهذا من العين الأصل ليس ببادع ،وهو الإبداع الذي ذكرهنا آنفا ، إذا كلَّ وأعيا. فأمّا قول القائل :
وفي حديث بكر بن عبد الله : كان أَصحاب محمد ، صلى الله عليه وسلم ، يَتَمازَحُون ويَتَبادَحُون بالبطيخ، فإِذا جاءَت الحقائق كانوا هم الرجالَ ، ويَتَبادَحُون أي يترامَون بالبطيخ مداعبة وممازحة ؛ ويقال سكين بادح للموسى إذا فلّت شفرتها وكلَّت عن القطع ، فهي بادح عاجزة عن الذبح والقطع ، ولا تصلح الا للرخو من الاشياء ، وبُديح وبَـدَّاح وبيدح أسماء تداولها القوم أو تنابزوها فيما بينهم ألقابَ دُعَـابة ومزاح .
وبُـدَيْـح المليح : التابعي الجليل مولى عبد الله بن جعفر رضي الله عنهم ، اشتهر بدماثة الخُلُق والأريحية الزائدة وكان إذا غنى قطع غناء غيره لحسن صوته -، وكان يمازح الملوك ، ولم يُرْوَ أنّ أحدا غضب منه ان انتهره ، لحسن عبارته ونبل قصده وسموّ مزاحه ، وعدم خدشه انسانية أحد أو مسه عِرضه . وهو من وفيات سنة 84 هـ، ترجم له ابن الجوزي في المنتظم وغيره . ومن قصصه الطريفة الرائعة :
أرِقَ معاوية ذات ليلة فقال لخادمه خديج : اذهب فانظر من عند عبدالله، وأخبره بخروجي إليه. فذهب فأخبره. فأقام كل من كان عنده، ثم جاء معاوية، فلم يرَ في المجلس غير عبدالله. فقال: مجلس من هذا؟ قال: مجلس فلان. قال معاوية: مُـرْهُ يرجع الى مجلسه ثم قال: مجلس من هذا؟ قال: مجلس فلان. قال: مره يرجع الى مجلسه. حتى لم يبق الا مجلس رجل. فقال: مجلس من هذا؟ قال: مجلس رجل يداوي الآذان، يا أمير المؤمنين . قال له معاوية: فإن أذني عليلة، فمره فليرجع الى موضعه، وكان موضع بديح المغنّي مولــى سيدنا عبدالله بن جعفر، فأمره ابن جعفر، فرجع الى موضعه، فقال له معاوية: داوِ أذني من عِلتها. فتناول العود ثم غنى :
فحرك عبدالله بن جعفر رأسه فقال معاوية: لم حركت رأسك يابن جعفر؟ قال: أريحية أجدها يا أمير المؤمنين، لو لقيت عندها لأبليت، ولئن سئلت عندها لأعطيت. وكان معاوية قد خضب، فقال ابن جعفر لبديح: هات غير هذا وكانت عند معاوية جارية أعز جواريه عنده، كانت متوليةً خضابه. فغناه بديح:
فطرب معاوية طرباً شديداً، وجعل يحرك رجله فقال ابن جعفر: يا امير المؤمنين، سألتني عن تحريك رأسي، فأخبرتك، وأنا أسألك عن تحريك رجلك. فقال معاوية: كل كريم طروب. ثم قام وقال: لا يبرح احد منكم حتى يأتيه اذني. فبعث الى ابن جعفر بعشرة آلاف دينار، ومئة ثوب من خاص ثيابه، والى كل رجل منهم بألف دينار وعشرة أثواب ،،،، ولبديح قصة طريفة أخرى ذكرها صاحب المنتظم ، مع عبد الملك بن مروان رحمه الله ، حين رقاه من مرض عرق النّســـا :
يحكى أن عبدالله بن جعفر دخل على الخليفة عبدالملك بن مروان فألفاه مريضا يشكو ألما, فقال له : يا أمير المؤمنين أتأذن لي في شيء ينفعك? قال: وما هو? قال: أدعو لك رجلا مغنيا اسمه "بديح" فإن عنده رقية لا تخيب, فقال: افعل.. فدعا الرجل, وطلب إليه أن يرقي الخليفة عبدالملك بن مروان, فاستجاب وقرأ في سره ما قرأ ثم انصرف, وبات الخليفة ليلته هادئا قد خف عنه الألم ، فلما أصبح قال: آتوني بديحا المغني ، فأتوه به فقال له: اكتب لنا الرقية التي رقيتني بها الليلة لتكون عندنا إذا عاودنا المرض ، فجعل بديح يتمنع في بادئ الأمر وأخيرا قال : اكتبوا عني.. وإذا هو ينشد أبياتا منها :
فقال الخليفة: أي شيء هذا ؟ فقال بديح : والله ما رقيتُـكَ يا أمير المؤمنين إلا بهذا الشعر, قال: ويحك, قال بديح : استر علينا, قال كيف: أستر حديثا أصبح الآن ملء الآذان وقد سارت به الركبان في كل مكان ؟؟؟ وذكر صاحب المنتظم أنه رقاه ببيت شعر :
قُـلْـتُ : إنَّ أمّـة يمازح فيها المولى أمير المؤمنين والرأس الأعلى في الدولة لجديرة بالاحترام والثناء والتقدير ، أمّــة أفرادها سواسية كاسنان المشط متساوون مع رئيسهم ، و لا فرق بين نفر وآخر إلا بالتقوى والعمل الصالح .اليست هذه هي الديموقراطية بأبهى تطبيقاتها ؟؟؟!!!
"ابتسم ، وأدرْ ظهرك للهموم والمصاعب " ، الابتسامة تصنع العجائب وتحقق المعجزات ، ولو بدأ أحدنا يومه بابتسامة لينة رقيقة دافئة بوجه زوجته وأفراد عائلته لحصد رغدا وهناء إقامة وطيب معاشرة طيلة اليوم ، وصدق القائل :
- ينظر : مقاييس اللغة لابن فارس
- القاموس المحيط للفيروزابادي
- لسان العرب لابن منظور -
- المعجم الوسيط
- المنتظم لابن الجوزي ، وفيه :قال الحجاج لجبلة : قل لفلان ، أكلتَ مال الله بأبدح ودُبيح( اي بالباطل ) فقال له جبلـة : (وهو ترجمة لما قال الحجاج) :
أكتب تعليقك هتا