هل كانت خواتيم سورة البقرة وحيا في ليلة المعراج أم نزلتا بالمدينة؟

وكالة البيارق الإعلامية

الحمد لله.

أولا :

من المعلوم أن جبريل عليه السلام نزل بجميع القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم .

ويدل على ذلك قوله تعالى :( وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194). الشعراء/192-194 .

وخواتيم سورة البقرة نزلت في المدينة ، كما ورد في صحيح أخرجه مسلم في "صحيحه" (125) من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) البقرة/284 ، قَالَ: فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَتَوْا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرُّكَبِ ، فَقَالُوا: أَيْ رَسُولَ اللهِ ، كُلِّفْنَا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ ، الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ وَالْجِهَادَ وَالصَّدَقَةَ ، وَقَدِ اُنْزِلَتْ عَلَيْكَ هَذِهِ الْآيَةُ وَلَا نُطِيقُهَا ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا؟ بَلْ قُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ) قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ، فَلَمَّا اقْتَرَأَهَا الْقَوْمُ ، ذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ ، فَأَنْزَلَ اللهُ فِي إِثْرِهَا:( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ) البقرة/285 ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللهُ تَعَالَى ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ( لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ) البقرة/286 ، قَالَ: نَعَمْ ، ( رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ) البقرة/286 ، قَالَ: نَعَمْ ، ( رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ) البقرة/286 ، قَالَ: نَعَمْ ، ( وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) البقرة/286 ، قَالَ: نَعَمْ )" .

ثانيا :

وأما الحديثان اللذان أوردهما السائل الكريم : فقد اختلف أهل العلم في مدلول كل منهما ، والجمع بينهما ، كما يلي :
أما الحديث الأول : " حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه " .

وهو حديث صحيح ، أخرجه مسلم في "صحيحه" (173) من حديث ابن مسعود قَالَ: " لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، انْتُهِيَ بِهِ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ... قال :" فَأُعْطِيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثًا: أُعْطِيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ ، وَأُعْطِيَ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، وَغُفِرَ لِمَنْ لَمْ يُشْرِكْ بِاللهِ مِنْ أُمَّتِهِ شَيْئًا ، الْمُقْحِمَاتُ ".

وقد اختلف أهل العلم في المراد بقوله :" وأعطي خواتيم سورة البقرة " .

هل المراد به أن الله أوحى إليه بهما بلا واسطة في أول الأمر ، ثم نزل بهما جبريل بعد ذلك؟ أم إن الله أعلمه أنه سيؤتيه هاتين الآيتين العظيمتين ، ثم نزلتا بعد ذلك في المدينة ؟

على قولين لأهل العلم :

القول الأول : أن الله تعالى أوحى إليه بهما في المعراج بلا واسطة ، وقد نقل ذلك عن بعض التابعين .

قال ابن الملك في "شرح المصابيح" :" قال: فأعطي رسول الله - صلى الله عليه وسلم – ثلاثاً ؛ أعطي الصلوات الخمس ، وأعطي خواتيم سورة البقرة ": .. وعن الحسن وابن سيرين ومجاهد - رضي الله عنه -: أن الله تعالى تولى إيحاءهما إليه ، بلا واسطة جبريلَ ليلة المعراج ، فهما مكيتان عندهم ". 

بل إن بعض أهل العلم عدّ خواتيم سورة البقرة مثالا على ما أوحي من القرآن للنبي صلى الله عليه وسلم في السماء.

فقد ذكر القاضي أبو بكر بن العربي المالكي في "أحكام القرآن" (4/359) مواضع نزول القرآن فقال :" مِنْ الْفَوَائِدِ الْعَارِضَةِ هَاهُنَا أَنَّ الْقُرْآنَ فِي مَحَلِّ نُزُولِهِ وَوَقْفِهِ : عَشْرَةُ أَقْسَامٍ: سَمَاوِيٌّ ، وَأَرْضِيٌّ ، وَمَا تَحْتَ الْأَرْضِ ، وَحَضَرِيٌّ ، وَسَفَرِيٌّ ، وَمَكِّيٌّ ، وَمَدَنِيٌّ ، وَلَيْلِيٌّ ، وَنَهَارِيٌّ ، وَمَا نَزَلَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ".

وقد نقل السيوطي كلام ابن العربي في "الإتقان" (1/90) ومثّل للسماوي فقال :" لَمْ أَقِفْ عَلَى مُسْتَنَدٍ لِمَا ذَكَرَهُ فِيهَا إِلَّا آخِرَ الْبَقَرَةِ ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ:" لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَهَى إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى الْحَدِيثَ ". 

وقال في "الإتقان في علوم القرآن":" وَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ لِلْوَحْيِ كَيْفِيَّاتٍ ... الْخَامِسَةُ: أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِمَّا فِي الْيَقَظَةِ ، كَمَا فِي لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ ، أَوْ فِي النَّوْمِ كَمَا فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ: "أَتَانِي رَبِّي فَقَالَ: فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى.." الْحَدِيثَ.

وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ هَذَا النَّوْعِ شَيْءٌ فِيمَا أَعْلَمُ ، نَعَمْ يُمْكِنُ أَنْ يُعَدَّ مِنْهُ آخِرُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ".

القول الثاني : أن الإعطاء في ليلة المعراج كان بمعنى الاستجابة ، أو بمعنى البشرى بالإعطاء.

قال المظهري في "المفاتيح في شرح المصابيح" (6/200) :" قوله:" وأُعطِيَ خواتيمَ سُورةِ البقرة ": قيل: معناه: استجيب له - صلى الله عليه وسلم - مضمون الآيتين: غُفْرَانَكَ رَبَّنَا البقرة/285 ، إلى آخر السورة ، ولمَنْ سَأل من أمته إذا رَعَى حَقَّ السؤال ". 

وقال السندي في "حاشيته على سنن النسائي":" كَأَن المُرَاد أَنه قرر لَهُ اعطاءها وَأَنه ستنزل عَلَيْك وَنَحْوه ، وإلا فالآيات مدنيات". 

وأما الحديث الثاني : وهو حديث " عبد الله بن عباس رضي الله عنه "

وهو حديث صحيح أيضا ، أخرجه مسلم في "صحيحه" (806) من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ: " بَيْنَمَا جِبْرِيلُ قَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، سَمِعَ نَقِيضًا مِنْ فَوْقِهِ ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ ، فَقَالَ: هَذَا بَابٌ مِنَ السَّمَاءِ فُتِحَ الْيَوْمَ لَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ ، فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ ، فَقَالَ: هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ ، فَسَلَّمَ ، وَقَالَ: أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ أُوتِيتَهُمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ ، وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفٍ مِنْهُمَا إِلَّا أُعْطِيتَهُ " .

فقد اختلف أهل العلم في معناه على قولين :

القول الأول : أن النزول بالآيات هنا كان نزولا حقيقيا ، وكان ذلك بالمدينة ، وجمعوا بين هذا الحديث والذي قبله بتكرار النزول للدلالة على عظيم فضل هذه الآيات .

قال القاري في "مرقاة المفاتيح" في شرحه لحديث ابن مسعود السابق :" فَإِنْ قُلْتَ: هَذَا بِظَاهِرِهِ يُنَافِي مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ:" بَيْنَا جِبْرِيلُ قَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعَ نَقِيضًا مِنْ فَوْقِهِ أَيْ صَوْتًا ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ ، فَسَلَّمَ وَقَالَ: أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ أُوتِيتَهُمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفٍ مِنْهَا إِلَّا أُعْطِيتَهُ ".

قُلْتُ: لَا مُنَافَاةَ ، فَإِنَّ الْإِعْطَاءَ كَانَ فِي السَّمَاءِ مِنْ جُمْلَةِ مَا أَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ ، بِقَرِينَةِ إِعْطَاءِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي الْمَقَامِ الْأَعْلَى ، وَنُزُولِ الْمَلَكِ الْمُعَظَّمِ لِتَعْظِيمِ مَا أَعْطَى ، وَبِشَارَةِ مَا خُصَّ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ ..." .

ثم ذكر خلاف العلماء في ذلك ، ثم قال :

" وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ وَقَعَ تَكْرَارُ الْوَحْيِ فِيهِ تَعْظِيمًا لَهُ ، وَاهْتِمَامًا بِشَأْنِهِ ، فَأَوْحَى إِلَيْهِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ بِلَا وَاسِطَةٍ ، ثُمَّ أَوْحَى إِلَيْهِ فِي الْمَدِينَةِ بِوَاسِطَةِ جِبْرِيلَ ، وَبِهَذَا يَتِمُّ أَنَّ جَمِيعَ الْقُرْآنِ نَزَلَ بِوَاسِطَةِ جِبْرِيلَ ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ - عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ) الشعراء/193-194 ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ الشَّيْخِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا بِالْإِعْطَاءِ اسْتِجَابَةُ الدُّعَاءِ مِمَّا اشْتَمَلَ الْإِتْيَانُ عَلَيْهِ ، وَهُوَ لَا يُنَافِي نُزُولَهَا بَعْدَ الْإِسْرَاءِ إِلَيْهِ ".

الثاني : أن نزول الملك كان بالبشرى والفضل وليس بالآيات .

قال ابن العربي في "عارضة الأحوذي":" قوله " وأعطي خواتيم سورة البقرة " ، وقد روى مسلم أنه نزل عليه ملك من السماء لم ينزل قط وأنبأ النبي عليه الصلاة والسلام أنه أعطى الآيتين من آخر سورة البقرة من قرأهما في ليلة كفتاه ، والأصل في ذلك أنه أوحى بهما الليلة ليلة الاسراء أصلا ، ونزل إليه الملك بهذه الفائدة في أنهما من قرأ بهما في ليلة كفتاه فتجتمع الفائدتان ". 

وهذا ما رجحه القرطبي أيضا في "الجامع لأحكام القرآن" .

ومما سبق يتلخص ما يلي :

أن خواتيم سورة البقرة آيات مدنية ، وأن إعطاء الله تعالى هذه الآيات لنبيه صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج ، يحتمل أنه أوحى بهما إليه بلا واسطة ، ثم نزلتا مرة أخرى في المدينة ، أو أن الله بشره بنزول هذه الآيات عليه ، ثم نزلتا حقيقة في المدينة ، وأما حديث ابن عباس فيحتمل أنه نزول بالآيات ، أو نزول بالفضل والثواب .

والله أعلم .

تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -
    news-releaseswoman