مابعد الاسلاموية ...

الباحث : رضوان بوسنينة - المغرب

من الصعب القول ماكان يسمى بالإسلام السياسي بالمغربانه تعرض للانهيار ، بعدما تعرى قيميا من عرض سياسي دام عقد من الزمن وأكثر، ضمن فيه النظام قدرة وتفوق لإرجاعه لمكانه الطبيعي، ويبقى رقما سياسيا بلا تأثير سوى خرجات شيخه السياسي الذي فقد بوصلة التفكير والحشد الجماهيري ابان التمكين المزعوم لهذا التيار الذي ادخل للإنعاش من بوابته الكبرى .

ولذلك يناقش موضوع التحول في خطاب الإسلام السياسي الذي ركب على موجة رياح التغيير العربي 2011والتي أعطت بروز الإسلاميين المعتدلين في الوطن العربي وخاصة الدول التي تعيش نوع من الديمقراطية الدستورية والانتقال الديمقراطي.

ولذلك ففي غياب رؤية واضحة للإسلام السياسي العربي بعد افول تنظيم الاخوان المسلمين يبقى السؤال مطروح على انتهى العمل السياسي الاسلاموي في الوطن العربي؟ وهل يمكن الحديث عن مابعد الاسلاموية، خصوصا بعد بروز ازمة قيم وتصور وتجديد للنخبة الاسلاموية في الوطن العربي ؟

العقل الإسلامي وسؤال التجديد

لا يمكن اعتبار جدلية "المابعديات" لحظة زمنية يعيشها العقل العربي طوال العقود الثلاثة الماضية وحتى اللحظة؛ فمن "ما بعد الاستعمار" إلى "ما بعد الحداثة" و"ما بعد الصهيونية" و"ما بعد الإسلام السياسي"
والتي دخلت مرحلة اختبار حقيقي حينما قاربت هذه النظرية تخوم هذه الظاهرة الهوياتية الاجتماعية المعقدة.

ومن المفكرين الفرنسيين الذين كتبوا في الظاهرة الإسلامية –اوليفيه روا –في كتابه *فشل الإسلام السياسي *،رغم ما وجه له من انتقادات لتحيزه ولغياب العلمية في تحليل الظاهرة وسرعة الاحكام .

ويأتي المفكر الفرنسي فرانسوا بورغا الذي كان له موقف مغاير لأطروحة –مابعد الإسلام السياسي –حيث يرى أن الظاهرة الاسلاموية ليست مرحلة وانما هوية مجتمعية تعارض الاستعمار والتبعية .

وذهب هذا المفكر في تحليله للظاهرة ان هناك ثلاثة عوامل رئيسية مصاحبة ومساعدة في استمرار ظاهرة الإسلام السياسي.

أولها: الوضع الاجتماعي والاقتصادي كفيل باستمرار وجود تيار الإسلام السياسي .
وثانيها: قدرة الإسلاميين على إعادة التجديد وإنتاج خطاب داخلي بشأن الحداثة لتعبئة جمهورهم وأنصارهم.
وثالثها: وجود أنظمة استبدادية تضخم من خطر التهديد الإسلامي وتتلاعب به.

وفي نفس السياق؛ كان هناك الباحث الفرنسي الشهير آلان روسيون الذي رفض هو الآخر أطروحة "ما بعد الإسلام السياسي"، لكنه لم يفعل كما فعل بورغا بطرح رؤية تفسيرية للقضية من وجهة نظر لا تختزل الظاهرة في إطار نظري شامل، وتقيم على أساسه رؤيتها التفسيرية المطلقة للظاهرة تكون غير قابلة للنقاش والبحث والاختبار؛ وهو ما ترك مثل هذه الرؤية في حالة من اللايقين العلمي والمنهجي.

وتبقى رؤية روسيون في رفضه أن تفسر مقولة "ما بعد الإسلاموية" جميع الظواهر الدينية والسياسية الحالية في العالم الإسلامي، وأن يكون من شأن عموميتها أن تخفي ما يمتاز به مسار المجتمعات الإسلامية من تعقيد وتركيب؛ هذه الرؤية إذن تبقى الأقرب لخصوصيات المجتمعات وخلفيات الباحث المنهجية والثقافية وزوايا انطلاقه في فهم وتفسير الظاهرة.

ومن هذا المنطلق أيضاً؛ كانت رؤية الباحث المصري الراحل حسام تمام، الذي دعاه (عام 2007) مركز دراسات الشرق الأوسط في الجامعة الأميركية (بالقاهرة) للتعقيب على ورقة عمل قدمها روسيون ذاته وكان عنوانها: "في انتظار ما بعد الإسلاموية"؛ فكانت ورقة التعقيب من قبل تمام بعنوان: "في انتظار الغائب الذي لا يجيء: نماذج تتحدى فرضية ما بعد الإسلام السياسي".

وحينما ننظر بواقع الحركة الإسلامية بالمغرب فهي في وضع غير محسود ،بسبب ازمة قيم وأزمة مشروع وأزمة تجديد النخبة ،أي اننا كنا نعاني في فترة من المشيخة الروحية وتاثيرها المطلق بما يمكن ان نسميها بالبابوية الممزوجة بنوع من الصوفية ،الا اننا في حضن السياسة وجدنا انفسنا في لحظة استنشاق للذة التسلط والهروب الى ما يمكن ان نسميه بالشيخ السياسي .

ولذلك فتجربة الإسلام السياسي لا يمكن اختزالها في حزب او حركة، بل هي تجاذبات وتدافعات بنيوية بين انساق متناقضة فيما بينها.
وكما يذهب العديد من الباحثين فانه يجب عدم القطع والتسليم بمثل هذه المقولات المطلقة كانتهاء الإسلام السياسي، وأن يتأسس منظور مختلف ينبع من خصوصية الباحث العربي المسلم في رؤيته للظاهرة الإسلامية، ويمكن أن يكتشف من خلاله اختلاف مناهج النظر وموقع السياسة في مشروع الحركة الإسلامية.

كما أنه "يمكن القول إنّ المشروع الإسلامي خسر على مستويات مختلفة: الوصول للسلطة، ثم اقتراح نمط أو شكل جديد للسلطة، إضافة إلى تنازلات مؤلمة دفعها في رحلته للوصول إلى السلطة. لكن على مستوى فكرة السياسة أو البعد السياسي في الحركة الإسلامية، أخشى أن هناك خطأً كبيراً في إطلاقية القول بـ‘نهاية الإسلام السياسي‘ أو ‘ما بعد الإسلاموية‘، مردّه الأساسي هو التعميم وعدم إدراك تركيبية الحالة الإسلامية وتعقيدها".

ولا يغفل -في هذا السياق-المقاربة التي سبق أن طرحها عام 1996 الباحث الأميركي ذو الأصل الإيراني آصف بيات، في مقال شهير له بعنوان: "قدوم مجتمعات ما بعد الإسلام السياسي"، وطورها لاحقا إلى كتاب صدر عام 2007 بعنوان: "جعل الإسلام ديمقراطياً: الحركات الاجتماعية وخطاب ما بعد الأسلمة".

وقد اقتصر على مقاربة الحالة الإيرانية وتحولاتها من الإسلام السياسي الشيعي إلى ما بعد الإسلامية، وكانت مقاربة مشدودة لحركة المجتمع الاحتجاجي الرافض لحكم نظام الولي الفقيه، والتي توجت لاحقا بما عرف بـ"الثورة الخضراء" عام 2009.

لكن المقاربة التي وضعها بيات كانت ترتكز بدرجة رئيسية على فكرة أن هذه التحولات التي تشهدها الحالة الإسلامية السياسية، تتموضع حول فكرة أن حالة "ما بعد الإسلام السياسي" ليست مجرد شرط، بل هي أيضا مشروع: أي محاولة واعية لوضع تصور واستراتيجية لمنطق وطرائق السمو على "الإسلام السياسي" في المجالات الاجتماعية والسياسية والثقافية.

ومع ذلك؛ فإن حالة "ما بعد الإسلام السياسي" ليست معادية للإسلام أو غير إسلامية ولا حتى علمانية، ولكنها تمثل مسعى لدمج التدين بالحقوق، والإيمان بالحرية، والإسلام بالتحرر.

ويمكن اسقاط الحالة المغربية في انها مرحلة شرنقة يمكن التفكير بإخراج انموذج جديد لما بعد الإسلام السياسي الذي عاش سنوات من التجاذب السياسي الطفولي بين تيارات معاكسة لتوجهه أو تزاحمه في المشروع السياسي الذي كان يطمح في إخراجه ،وهنا يجب استحضار ان الحركة الإسلامية بالمغرب لاتتوفر على رؤية واضحة المعالم في تناول القضايا المختلفة ومنها الانية منها وخاصة مابعد الاسلاموية .

ان تجربة العدالة والتنمية معاكسة لتجربة العدل والإحسان ،الا انهما وقهعا في نفس الاشكال المرتبط بمحاولة لقلب مبادئ "الإسلام السياسي" الأساسية رأسا على عقب، وذلك عبر التركيز على الحقوق بدلا من الواجبات، والتعددية بدلا من السلطة الفردية، والتاريخية بدلا من النصوص الثابتة، والمستقبل بدلا من الماضي.

وحاولت هاتين التجربتين عقد مزاوجة للإسلام مع حق الفرد في الاختيار والحرية، ومع الديمقراطية والحداثة ، لتحقيق بعض ما وصفه البعض بـ"الحداثة البديلة".

ومثل هذه المقاربة التي ربما تعجل الكثير في وضعها كإطار نظري ومدخل تعريفي مفتوح لكل تفسيرات ظاهرة "الإسلام السياسي"؛ تبقى مقاربات مستعجلة في إطلاق الأحكام على ظاهرة قبالة للتحول والتبدل، وتسيطر عليها خاصية الثبات أكثر من خاصية الدينامية الاجتماعية، التي تسم المجتمعات وطبيعة تحولاتها وتفاعلاتها السياسية والاجتماعية المعقدة.

الأهم في الأمر هو أن الظاهرة الإسلامية متنوعة ومتعددة بشكل كبير ولافت، ليس على مستوى الظاهرة ككل بل وعلى مستوى الجماعة والتيار الواحد هناك تباين كبير وأكثر من توجه داخل الجماعة الوحدة؛ فكل يرى أنه الأقرب إلى التفسير الصواب للفكرة، مما يضعنا أمام حالة متنوعة يصعب معها القياس والحكم على الظاهرة ككل.

فعلى سبيل المثال والملاحظ؛ في الحالة الإخوانية ثمة تياران حاكمان لها: التيار التنظيمي الذي يجد صعوبة في قبول وتقبل الفكرة الديمقراطية التعددية؛ والتيار الثقافي والسياسي الذي غدا عرابا ومناضلا من أجل هذه الأفكار والإيمان بها، كمخرج للمأزق السياسي المعاصر في المنطقة ككل.

في المقابل؛ لا يخفى على المراقب بروز شريحة نخبوية شابة في القلب الحركة الإسلامية، ولكي نكون أكثر دقة نقول إنها قادمة من قلب حركة الإسلام السياسي وفاعل إعلامي وثقافي كبير فيه، وكانت جزءا لا يتجزأ من شرارة ثورات الربيع العربي.

وبلورت جزءا من شعارات هذه الثورات، مثل شعارات: العدالة والحرية والكرامة والمواطنة المتساوية. وقد وجد جل شباب هذه الشريحة أنفسهم وجها لوجه مع مقارعة الأنظمة الاستبدادية التي لا تناسب توجههم ومزاجهم وسقف طموحاته المرتفع.

وهذه الشريحة النخبوية الشابة ليست معزولة عن ظهير فكري تنظيري عالي المستوى في قلب الحركة الإسلامية، وممن ينظر في هذه المرحلة لضرورة الفصل أو التمييز بين السياسي والدعوي، وضرورة مغادرة حالة التيه -التي وجدت الحركة الإسلامية نفسها داخلها بسبب الاشتباك السياسي والدعوي القائم على فكرة دولة الشريعة والحاكمية- إلى دولة الحقوق والحريات المدنية.

لكن هل تعني مقاربة الفصل أو التمييز بين السياسي والدعوي -فيما تعنيه- أننا أمام مرحلة "ما بعد الإسلام السياسي" بكل تجلياتها، وانحسار الحالة الإسلامية الدعوية والسياسية في إطار حزب سياسي كغيره من الأحزاب البرامجية، على غرار الأحزاب الديمقراطية المسيحية في أوروبا؟

الدعوي أولا ...ام السياسي أولا ؟

هذا السؤال أيضاً بحاجة إلى مقاربة أكثر دقة لتفكيك زاوية الإشكال القائم في المجتمعات العربية والإسلامية، فيما يتعلق بجذر الإشكال القائم والمتعلق بظاهرة الاستبداد السياسي الجاثم على صدر هذه المجتمعات منذ عقود عدة، قبل الحديث عن أخطاء وتعقيدات الظاهرة الإسلامية وخلطها بين الديني والسياسي.

وبمعنى آخر؛ فإن الحديث عن ظاهرة "ما بعد الإسلام السياسي" كواقع لا يمكن معه الهروب من مقولة فيها الكثير من المبالغات وعدم الدقة، رغم بعض المؤشرات التي لا يمكن القياس عليها بشأن تحولات الظاهرة الإسلامية ككل. وبمعنى أكثر دقة؛ فإن بقاء ظاهرة الإسلام السياسي مرتبط جذريا بتعقيدات وتفاعلات الواقع السياسي للعالم الإسلامي ككل.

يجب ان نؤكد ان التنظيمات المركزية للاسلام السياسي بالمغرب تأثرت بشكل كبير بسبب السباق المتعاظم على غنيمة الإسلام السياسي ،مما اثر على بنيات كبيرة وحالة الترهل الروحي لهاته التكتلات من شانه ان يعيد قناعات المنتسبين ان أطروحة السياسي أولا كانت مؤثرة بشكل سلبي لاأكثر على الإسلام الدعوي بالمغرب .

وافول هاته التنظيمات راجع الى ان هناك إشكالية نخبة وخاصة بعد الهفوات التربوية التي اثرت على اتزان هاته التنظيمات والتي كانت بحاجة الى إعادة تنظيم البيت الداخلي لها وخاصة بعد وفاة الشيخ –عبد السلام ياسين –نموذجا أو استقالة احمد الريسوني كنموذج آخر .

وبين التيارين ثمة جدل يتصاعد باطراد بين أنصار الواقعية السياسية الذين يدعون إلى التكيّف مع متطلبات الواقع السياسي، وابتدار صيغ مستجدة ترتقي إلى مستوى التحديات التي أفرزتها الأحداث العاصفة، وخصوصا في مرحلة انكفاء الربيع العربي وتداعياته القاسية؛ وبين دعاة اللاواقعية السياسية الذين حبسوا أفكارهم وتصوراتهم في قفص الجمود والتقليد، وتوقفت لديهم ديناميات الحركة والتطور لصالح رؤى ومواقف عقيمة أوردت حركاتهم القهقرى واستمراء البكاء على الأطلال.

وبصفة عامة ، تعيش حركات الإسلام السياسي في المنطقة العربية هذه الأيام ضمورا سياسيا وخمولا ميدانيا، ويعاني معظمها من ضبابية حادة في الرؤية إزاء سبل التعامل مع الأنظمة العربية في بلدانها، وتتنازعها جواذب اجتهاد في اتجاهات ومسارات مختلفة بين فترة وأخرى.

يصعب وضع هذه الحركات في سلة واحدة وإعمال ذات المعايير النقدية على الجميع في ذات الوقت، فالفروقات بيّنة بين تجربة وأخرى.

إلا أن واقع معظم حركات الإسلام السياسي يشي بقدر عالٍ من التشتت والاضطراب، ويعزز مناخات الجمود التقليدية التي رانت على فكر وتصورات هذه الحركات على مدى العقود الماضية، وحرمها دينامية الانفتاح على الواقع وتطورات الأحداث في إطار مراجعات نقدية، لم يتوسل أصحابها إلا بظاهرها القشري بحجة التمسك بالثوابت والمبادئ القديمة.

ومع ذلك، فإن معظم حركات الإسلام السياسي تشترك في العديد من الأخطاء الإستراتيجية التي شكلت عنوانا جامعا لإخفاقاتها السياسية والوطنية خلال السنوات الماضية.

ومن تلك الأخطاء أن هذه الحركات تعاملت مع أحداث ومخرجات الربيع العربي بسطحية مفرطة واستخفاف كبير، وانساقت وراء عواطفها التي زينت لها انطواء المحن ووردية الطريق، وأن المرحلة قد باتت مرحلتها بلا منازع، فخاضت المسار السياسي دون حسابات دقيقة، وقفزت قفزات غير محسوبة وجانبها التوفيق.

وبالتالي فإنها حرقت الكثير من المراحل في وقت كان يفترض فيه أن تستوعب شروط ومفاهيم وآليات العمل السياسي، وأن تتدرج في العمل العام والطريق إلى إدارة الدولة، بحكم انعدام خبرتها السابقة في ممارسة الحكم وشؤون الدولة.

ومن بين الأخطاء أيضا، أن بعض حركات الإسلام السياسي -التي فازت في الانتخابات ببلدانها- عجزت عن الانتقال من المرحلة الحزبية الضيقة إلى المرحلة الفسيحة التي تجعل منها خيار الجميع، وتمنحها القدرة على مخاطبة وتلمّس هموم وآمال وطموحات واحتياجات كافة الشرائح الاجتماعية في بلدانها، عبر سياسات عملية بعيدا عن لغة العواطف والشعارات.

ومن بين ذلك، عجز هذه الحركات عن استيعاب خريطة التحالفات الداخلية والخارجية، وقراءة المضامين والمواقف والممارسات السياسية الإقليمية والدولية بشكل سليم، فكانت حساباتها تبعا لقراءاتها الخاطئة، وكانت النتيجة السقوط في فخ المكائد والاستدراج الذي نُصب لها إقليميا ودوليا.

ومن أهم الأخطاء -التي سقطت في شراكها- عجزُها عن التفريق بين الثابت والمتغير، وبين الإستراتيجية والتكتيك، إذ هيمنت عليها مفردات الجمود عقودا، وبقيت حبيسة القناعات الصخرية والأفكار المقولبة التي ترى أن الباطل لا يأتيها من بين يديها ولا من خلفهوفي سياقات عملها الحركي وجهدها التربوي؛ لم تبتدر هذه الحركات -منذ عقود- مراجعة حقيقية تتوخى الفرز بين الأهداف والغايات المنشودة من جهة، وآليات ووسائل تحقيقها من جهة أخرى، فتحولت هذه الآليات والوسائل إلى أدوات مقيمة على الدوام في الحضن الحركي رغم ضعف جدواها، وبدا أنها أضحت أهدافا وغايات بحد ذاتها، مع ما يحمله ذلك من مخاطر كبرى على المسار التربوي والاجتماعي لهذه الحركات.

من الخطأ أن يعتقد البعض أن الفصل المطلوب يُحيل هذه الحركات إلى مربع العلمانية، أو يباعد بينها وبين القيم الدينية التي نشأت في رحابها وزينت بها أدبياتها الفكرية والسياسية والثقافية.

وحين يختلط السياسي بالدعوي، وتخوض الكوادر الحركية الإسلامية المسارين معا؛ فإن السياسة تلوث أصحابها في كثير من الأحيان، أو تضعهم موضع النقد والتشريح والاتهام على أقل تقدير، بسبب الأوضاع والاجتهادات المتغيرة، واختلاف زوايا الرؤى وتقدير المصالح بين الحركات والأحزاب السياسية.

حركة التفكير أو النقذ الذاتي الحركي:

معضلة المعضلات لدى حركات الإسلام السياسي تكمن في نمطية التفكير الحركي، الذي تنبثق عنه المواقف والسياسات في مختلف المجالات.
راوحت التجارب الحركية لحركات الإسلام السياسي طيلة العقود الماضية في مكانها، واستنسخت ذات المناهج والأدوات والسياسات دون أي تغيير حقيقي.

وفيما لاحت لهذه الحركات الفرصةُ الذهبيةُ مع اندلاع ثورات الربيع العربي؛ فإن قدرتها على استثمار المتغيرات الحاصلة بدت ضعيفة للغاية، وبدلا من أن تحمل مشروع إنقاذ للأمة وشعوبها وإصلاح لواقعها المتردي في مختلف المجالات، فإنها تقوقعت في إطار البحث عن مصالحها الحركية أولا.

ولم تحلّق هذه الحركات في الفضاءات المفتوحة القادرة على جمع كل الأطياف والتيارات تحت راية الكرامة والسعي لتحقيق قيم الحرية والعدالة، بما يعود بأفضل الأثر على حاضر الأمة ومستقبل نهوضها، فسَهُلَ بذلك استهدافُها والانقلاب عليها.

ومردُّ ذلك هو الانغلاق على نمطية أحادية في التفكير السياسي والاجتماعي، والبقاء في أسر المعايير والمناهج والمفاهيم المرتبطة بها والدائرة حولها، والخوف من التجديد، والركون إلى الفكر القديم الذي تجاوزت الأحداثُ الكثيرَ من مبناه وآلياته ومعانيه.

صناعة القادة أم صياغة القدوة :

ينبغي أن تدرك حركات الإسلام السياسي أن الكثير من قياداتها لا يمكن وضعها في خانة القدوة القابلة للتأسي والاتباع، وأن العديد من العوامل والاعتبارات قد استهلكت صورة الكثير من هذه القيادات، وحرمتها من أن تكون نموذجا ملهما لقاعدتها الحركية من جهة، ولجماهير شعوبها من جهة أخرى.

والمقصود هنا لا يتعلق بقدح هذه القيادات في صميم صفاتها الأخلاقية، بل يتعلق بتواضع صفاتها وشمائلها الشخصية والقيادية، وانحسار مستوى الهمم والعزائم المحركة لها وتحققها بالمواصفات الإيمانية والخبرات السياسية الرفيعة التي تجعلها قادرة على نيل ثقة شعوبها، والصمود في وجه عواصف المحن والتحديات، وخوض غمار التنافس والصراع مع البيئة والمكونات المحيطة بعظام قوية لا تعرف الخور أو الانكسار.

تحتاج حركات الإسلام السياسي إلى إعادة صياغة مواقفها وبرامجها السياسية بحيث تكون منسجمة مع أحداث وتطورات الواقع، فقد عانت مواقفُها وبرامجها السياسية من عُقدة العمومية المفرطة والشعارات البراقة، والافتقار إلى الحكمة والنضوج المطلوب.

ولعل تفحّص أدبيات حركات الإسلام السياسي بهذا الخصوص يكشف عن اختلال واضح في تحديد الأولويات السياسية، والكثير من قصَر النظر في التعاطي مع الأحداث السياسية وقضايا المجتمع، مما زجّها في مربع النقد والاتهام بضعف الفهم وعدم المسؤولية في كثير من الأحيان.

فوق ذلك، فإن التجارب المرة -التي مرت بها هذه الحركات على مدار السنوات الماضية- برهنت على خفّتها السياسية، وعجزها عن إنتاج خطاب سياسي واقعي في غمرة التحديات الكبرى التي واجهتها، وهو ما أضعف أسهمها الجماهيرية والالتفاف الشعبي حولها، وعزز قناعات خصومها القائلة بانتفاء قدرتها على ركوب بحر السياسة وتحمل مسؤولياتها الوطنية في بلدانها.

ولكي تثبت هذه الحركات أهليتها السياسية؛ فإن عليها إرساء رؤية سياسية واضحة المعالم ومجردة من البعد الشعاراتي الفضفاض، وتوفير إجابات دقيقة عن كافة الأسئلة السياسية والاقتصادية التي تشغل بال الشرائح والمكونات الشعبية المختلفة في بلدانها.

كما تمكّن من امتلاك زمام أفئدة الجماهير التركية وحاز ثقة وتقدير مختلف تلاوينها السياسية والاجتماعية، وهو ما تجسد عمليا في الهبّة الشعبية التي دافعت عن حكم العدالة والتنمية وأسقطت المنقلبين على إرادتها الوطنية إبان الانقلاب الفاشل العام الماضي.

وباختصار؛ فإن حركات الإسلام السياسي ليست بحاجة إلى كثير من جلد الذات والغرق في بحار الجدل العقيم، بقدر ما تحتاج إلى همم عالية وعزائم كبيرة تحملها على سلامة تشخيص الأدواء والأخطاء الإستراتيجية التي ألقت بالكثير منها إلى هامش الأحداث، والشروع في تبني الصيغ والسبل الكفيلة باستدراك ما فات، والنهوض مجددا لما فيه صالح هذه الحركات ومستقبل شعوبها.


خبير استراتيجي بالمعهد العربي للتخطيط
تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -
    news-releaseswoman