قادرون... ولكن باختلاف

منذ سنوات، وتحديداً في عام 2012، شرفت بلقاء فتيات نادي الثقة بإمارة الشارقة الحبيبة احتفالاً بإنجازات رياضية لفئة رائعة من صاحبات الهمم اللاتي تحدين أنفسهن بالإيمان والإرادة القوية، وقد كان بحق لقاء خاصاً، ترك أثراً عميقا في نفسي؛ فكأنني أثناء المحاضرة، كنت أتحدث مع نفسي أكثر من حديثي معهن، وأستمد من إنجازاتهن الإرادة، ومن ابتساماتهن الأمل.تداعت هذه الذكرى والأفكار إلى ذهني وأنا أتابع الحفل الذي أقيم في القاهرة لذوي الهمم في 3 ديسمبر من العام الذي ودّعناه قبل أسابيع، وذلك بمناسبة اليوم العالمي لـ"ذوي الإعاقة"، المخصص من قبل الأمم المتحدة منذ عام 1992، الذي يهدف إلى زيادة الوعي المجتمعي بحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، وتأكيد حقهم في المشاركة والاندماج في شتى مناحي الحياة.

كان الحفل بحضور رئيس الجمهورية، وممثلي الحكومة، وأطفال ويافعين من أصحاب الهمم هم وأسرهم، ومنح الرئيس عبد الفتاح السيسي الوقت والاهتمام والتركيز والمشاعر الأبوية الحانية، التي ازدانت بمشاعر الاحترام والتقدير، لهؤلاء القادرين ولكن باختلاف، وبالتأكيد، هذا الحنو والتواضع والاهتمام، رفع من تقدير أصحاب الهمم لذواتهم،وثقتهم بأنفسهم، ولفت نظر المجتمع بكافة أفراده ومؤسساته إلى أهمية التكاتف والتعاون مع الحكومة لدعم هؤلاء الأطفال وأسرهم، خاصة بعد إعلان الرئيس السيسي قوانين عدة تدعم هؤلاء الأطفال وأسرهم، في ظل بناء جمهورية جديدة، وفي ظل مبادرة حياة كريمة، وخطة التنمية المستدامة التي لابد أن تتضمن إستراتيجية دمج ذوي الهمم في المجتمع، وإتاحة الفرص لممارسة أنشطتهم، وإبراز مواهبهم وقدراتهم.

وهكذا، قامت الحكومة بالجانب الذي يخصها، لكن الأمر بحق لا يمكن أن يقتصر على إصدار القوانين؛ فالحكومة لا تمتلك عصا موسى،كما يقولون، فلا يمكن أن نعتمد على القوانين وحدها، بل يجب نشر الوعي المجتمعي بفئة ذوي الهمم، وبحقوقها، وبالتحديات التي تواجهها، والتي لا يمكن تذليلها في ظل ضعف الوعي المجتمعي، الذي تجسّد –على سبيل المثال- في الحادثة التي انتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بعد أيام من احتفاء الدولة على أعلى المستويات بفئة القادرين لكن باختلاف.

الحادثة، حسب ما ورد على لسان الطالب وأسرته، أن طالباً من فئة ذوي الهمم الذين أتاح لهم القانون الدمج ضمن مدرسة حكومية، من المفترض أنها مؤهلة لاستقبال طلاب لديهم ما يكفي من التحديات في الحياة، تعرّض لإهانات لفظية عنيفة من قبل معلمته،عندما طلب أن ينتقل إلى الصف الأمامي، وما كان من مديرة المدرسة، حسب رواية الطالب وأسرته، إلا أن قررت الإجهاز على البقية الباقية من كرامة الطفل؛ حيث طلبت منه غسل بعض الأكواب، وعندما توتر وكسر كوباً، حبسته، وكسرت قلبه؛ انتقاماً لكرامة الكوب المكسور!!،حتى أصيب بصدمة نفسية، حسب ما رواه الأب المسكين، الذي استكمل روايته بأنه رضخ لاقتراح من المسئولين باحتواء الموقف، وتهدئة الأمر، من أجل أن ينال ابنه تعاملاً طيباً من المدرسة.

منذ هذه اللحظة، تدفق سيل من التساؤلات على عقلي: ماذا يمكن أن يفعل أب مسكين يحاول أن يربي ابناً مختلفاً يواجه بعض العقليات المتخلفة التي لا تقبل اختلاف خلق الله؟ ففي الحقيقة، إننا لدينا تفكير خاطئ أعاقنا عن فهم سنة الله في الكون؛ وهي الاختلاف الذي هو آية من آيات الله، وبماذا يمكن أن يشعر هذا الطفل بعد هذه الإهانات التي أطاحت بكرامته كإنسان؟ وكيف يرى الابن والده.. هل يراه متنازلاً عن حقه وهو ملاذه وسنده؟، وما الذي يمكن أن يشعر به الأطفال تجاه زميلهم ومعلمتهم ومديرتهم؟، وما شعور الأب الذي اضطر للحظات أن يحتوي الموقف رأفة بابنه، قبل أن يتخذ قراراً نهائياً بتقديم شكوى ضد المعلمة، في ظل قانون تم إصداره لمحاسبة مرتكبي جرائم التنمّر على ذوي الهمم؟، وكيف نتعلم في مدارسنا مبادئ الرحمة واحترام الآخر مهما كان مختلفا، ثم نرى ظاهرة التنمر تتكاثر وتتضخم لتصل إلى هذه الفئة من ذوي الهمم، بدلاً من التعاون معهم ودعمهم، حتى يستطيعوا أن يحققوا أحلامهم، لعلنا ندرك أنهم قادرون ولكن باختلاف؟.

عدت مرة أخرى لأتساءل: كيف يمكن أن يحدث هذا بعد أيام قليلة من لقاء الرئيس بقادرين لكن باختلاف، فإذا كان رأس الدولة يفعل ذلك، ما الرسالة التي قصد سيادته أن تصل إلينا كأفراد بالمجتمع؟ إنني أعتقد بأن مضمون الرسالة هو تسليط الضوء على هؤلاء الأبطال من خلال وسائل الإعلام والإعلان، وإبراز إنجازاتهم وإبداعاتهم ،ومدى التحديات التي يواجهونها هم وأسرهم، ولعل الدراما هي الوسيلة التي تلعب الدور الأكبر تأثيرا والأكثر انتشاراً في رفع مستوى الوعي المجتمعي بذوي الهمم بالمقارنة ببرامج التوعية المباشرة.

ولذلك كان مسلسل (حلم حياتي)، الذي عُرض في الآونة الأخيرة، ولاقى قبولاً جماهيرياً كبيرا ً ، من الأعمال الدرامية التي حملت مسؤولية نشر الوعي بمرض التوحد وتبعاته، فقد كانت بطلته تعاني من التوحد، لكن إيمان أبويها بأهمية دعمها ودمجها في الحياة، وعدم الانعزال بها عن المجتمع، من أجل إبراز موهبتها، وتحقيق حلمها، في ظل رحلة يومية من الضغوط والصعوبات، والتعرض لتنمّر الأطفال في المدرسة، ثم الزملاء في الجامعة، إلى آخر تلك الضغوط التي طرحها المسلسل، منها ضعف الوعي بطبيعة التوحد وهذا ما صرحت به الممثلة مايان السيد نفسها التي أدت الدور باقتدار، وكذلك عدم إدراك الغالبية العظمى من الناس بالتحديات التي يواجهها الأطفال الذين يعانون من التوحد هم وأسرهم، وأهمية الالتزام ببرنامج تأهيلي مستمر، والذي أدى كما جسدت أحداث المسلسل إلى انشغال الأبوين عن شقيقتها، ما أثر سلباً على سلوكياتها، وقد أشار المسلسل إلى حق البطلة في الحب وتكوين أسرة، ويُحسب للمسلسل أنه تضمن العديد من الرسائل منها توعية المشاهد بالقانون المصري الذي يكفل لفئة ذوي الهمم حق عدم التعرض للتنمّر من أي فرد في المجتمع.

إننا نحتاج إلى وجود مثل هذه الأعمال الدرامية التي تساهم في إدراك المتلقي لقيم إنسانية عظيمة الأثر على المجتمع، فوجود ضعف أو قصور في وظيفة أحد أعضاء جسم الإنسان لا يمكن أن يعوقه عن تحقيق أهدافه وأحلامه، طالما تولدت لديه الإرادة القوية، ولاقى تعاونا حقيقيا من الأسرة والمجتمع ومؤسسات الدولة، فيجب أن يركّز الإنسان على تطوير ما لديه من إمكانات وقدرات،لأننا جميعاً لدينا ما ينقصنا؛ سواء كان هذا النقص ظاهراً للعيان، أو خافياً بداخلنا.

تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -
    news-releaseswoman