هكذا يمكنك، أيها القارئ العزيز، أن تقرأ بين سطور كتاب "بدون سابق إنذار"،الذي وقّعته النائبة البرلمانية "أنيسة حسونة" الأسبوع الماضي، بعد عدد من المقابلات التلفزيونية، التي تتيح لمن لم يستطع أن يحصل على الكتاب التعرّف إلى خبرة إنسانية لسيدة مصرية داهمها المرض الخبيثـ السرطان ـ من دون سابق إنذار أو أعراض، فإذا بالحياة تتوقف أمام عينيها، وتقفز التساؤلات فوق مرحلة الإنكار لهذا الأمر، الذي وقع كالصاعقة على رأسها، فهي تتساءل: هل سأفارق أحبابي؟، هل سيتذكرني أحفادي؟، هل سيخطفني الموت ـ الذي تعلم أنه حق وقدرـ من هذا الزوج المحب؟. ومع هذه التساؤلات، تدرك أن من نِعم الله على الإنسان أنه لا يعرف وقت استرداده سبحانه أمانته. وأمام هذا الطوفان من التساؤلات والذهول والإنكار، لم تتوقف النائبة البرلمانية النشيطة عند منصبها في مجلس الشعب، ولا الشهرة التي نالتها عبر أنشطتها الخيرية، واللقاءات التلفزيونية، فجأة وجدت أن الأولوية الأولى، وكل ما يحتل بؤرة الشعور واللاشعور والقلب والعقل وجنبات النفس، هم هؤلاء الأحباب الذين يمثلون أسرتها.
لا شك أن الذين شاهدوا لقاء "أنيسة حسونة" وزوجها مع الإعلامية منى الشاذلي لن يخطئوا أبداً هذا الصدق والوفاء والحب، وكل المشاعر النبيلة التي فاح عبيرها خلال هذا اللقاء، من خلال الحديث عن دعم الزوج ـ رفيق العمر وشريك الحياة ـ، والابنتيناللتين لم تمنعهما مسؤولياتهما الأسرية والعملية من التناوبوالوجود مع أمهما، حتى ولو خارج البلاد،مهما كلّف هذا من عناء ومشقة ومال،وأعتقد بأن هذا اللقاء المفعم بالحب والألم والدموع والابتسامات والضحكات،أثار فضول المشاهدين للاطلاع على الكتاب،الذي أراد به زوجها أن يحوّل محنة زوجته مع هذا المرض إلى منحة وأمل وطموح وتفاؤل،هذه الزوجةالتي أطلق عليها "قرة عينيه"،فمنذ بداية رحلة علاجها، قال لها:"أنت لازم تعملي كتاب عن هزيمتنا للسرطان".. ما أروعك أيها الزوج المحب، دخلت معركة العلاج وأنت مؤمن بهزيمتكما للسرطان؛ هذا الإيمان الذي يتولّد في قلب شريك الحياة المتشبث بشريك حياته، مضحياً بوقته وجهده وفكره، وكل ما يملك من أجل رفيق العمر، حتى لو فقد معظم أعضائه، مثلما تعرضت له "أنيسة حسونة"، في عملية جراحية قاسية، ربما كادت تفقدها ثقتها بنفسها، لولا إيمان بالله سبحانه، ثم حبُ شريكِ الحياة، الذي عبّر عن مشاعره تجاه زوجته بقوله:"أنيسة حسونة تستحق كل الحب اللي في الدنيا".
وإذا كان البعض يرى في كتاب "بدون سابق إنذار" سرداً لخبرة حياتية في مواجهة مرض خبيث قاسٍ، وأنه قد يمدّ المصابين بهذا المرض بالأمل في الشفاء، والتعرّف إلى بعض التفاصيل التي تفيدهم أثناء العلاج، فإنني أرى أنه يُعدّوثيقة لتاريخ الأسرة المترابطة، التي تعلمتُـ وسيتعلم القارئ ـ منها كيف تكون الشراكة بين الأزواج والأبناء في لحظات السرّاء والضرّاء.
يفرض الزوج وجوده بأفعاله ومشاعره،ورحمته وأبوّته،على قصة مرض "أنيسة حسونة"، وهو ما جعلها تعبِّر عن ذلك بقولها:"لولا زوجي بجواري، لم أكن لأستطيع تحمّل عبء المرض وحدي"، وكأن الشراكة بين الزوجين تتجسّد في أرقى صورها عند تبدّل الأحوال، ومواجهة الأزمات،فيعلم كلا الشريكين رصيده من الحب عند الآخر،الحب الذي أسهل ما فيه الكلمات، وأصعب ما فيه الأفعال،والتفاصيل الرقيقة الصادقة التي تمنح المحبوب والمحب الشعور بالأمن والأمان، والتي جعلت من "أنيسة حسونة" في لحظات ألم غير محتمل، وقلق مستمر،تنادي على زوجها، الذي مجرد وجوده أشعرها بالاطمئنان والأمان، أو على حد تعبيرها: "طبطبة من يد زوجي على يدي، أعادت لي بعض التوازن"، بل إنها تحوّلت إلى طفلة، تعلم أن زوجها يدرك خطورة مرضها أكثر منها، فحمل عنها جزءًا كبيراً من الألم النفسي، ومعاناة الحوارات مع الأطباء، زوج لم يتزعزع طوال فترة المرض، ورحلة العلاج الشاقة، وهي لحظات قد يهرب فيها أناس كثيرون.
إذا كانت معركة السرطان معركة حياة، فالحياة لا تُقاس بطول الوقت، وعدد السنوات التي نعيشها، ولكن بجمال الحصاد، وثمرات ما زرعناه طوال السنين، ومن فصل إلى فصل في قصة مرض وعلاج "أنيسة حسونة"، ستتساءل أيها القارئ العزيز: وهل هناك أجمل من كل هذا الحب؟ هل الموت هزيمة؟ لا، بل هو حق، وقدر مكتوب، ولكن هناك أناساً يموتون وقلوبهم عامرة بحب من حولهم، وهم أيضاً غمروا من حولهم بالحب، فتمتد حياتهم حتى بعد أن توارى أجسادهم الثرى، وهذا هو المعنى الحقيقي للحياة، حتى بعد الحياة.
وسيطلّ التساؤل التالي من بين صفحات "بدون سابق إنذار": هل الأستاذ "شريف" زوج الكاتبة "أنيسة حسونة" حالة نادرة في هذا الزمان؟..فاسمح لي أيها القارئ العزيز أن أجيبك بأن الحياة مليئة بمن هم نماذج جسدت الوفاء والإخلاص والحب في أجمل صوره،فعندما تقرأ رواية "أثقل من رضوى" للدكتورة رضوى عاشور ـ رحمها الله ـ، التي سجلت فيها تفاصيل إصابتها بهذا المرض اللعين، وكيف لحق بها زوجها الشاعر الكبير مريد البرغوثي، وأحاطها وابنهما في الولايات المتحدة الأمريكية بالحنان والحب، حتى في أدق التفاصيل، وقدتقاسموا هذا "الاستوديو" الصغير جداً في مساحته، الذي اتسع بمشاعر الوفاء والإخلاص والمحبة، التي ظللت على الأسرة الصغيرة، في رحلة علاج قاسية، وقد توقف الزوج الشاعر عن الكتابة أثناء مرضها،وعندما كتب قال:"عودي يا ضحكتها عودي".
وقد يجادلني القارئ أنها مجرد روايات، يلعب الخيال فيها دوره، حتى لو كانت سِيَراً ذاتية لكتابها. واسمح لي أن أقول إن هناك آلاف الأمثلة، التي يمكن ألا ينتهي المقال بسردها، على أرض الواقع، نشاهدها في الحياة اليومية؛ فهذا عامل النجارة الذي يقطن في أحد الأحياء الفقيرة، باع كل ما يملك، واقترض مالاًلعلاج زوجته التي أصيبت بسرطان الرحم،وجلس بجانبها، وعندما سألوه قال:"أستطيع أن أشتري دُكّاناً آخر،أو أن أقترض مالاً وأسدده، إن شاء الله، ولكن لن أستطيع شراء شريكة حياة، ورفيقة عمر، ولن يعوضها شيءعن لحظات أضمها فيها، قد تبعث في نفسها الأمل،وهي لن تستطيع أن تقترض زوجاً"، وذلك المهندس الذي باع كل ما لديه وسافر مع زوجته لعلاجها من هذا المرض اللعين، تاركاً أطفاله مع أسرته، فماتا سوياً هو وزوجته في حادث الطائرة السنة الماضية.. تتساءل: هل ماتا فعلاً؟، أجيبك: لقد عاشا في قلوب كل من حولهما، وسيشب أطفالهما فخورين بأن الأب لم يتخلَّ عن أمهما، وقديماً قال أحد الحكماء: أجمل هدية يقدمها الأب لأبنائه هي حبه لأمهم.
وأختتم الأمثلة اللانهائية للوفاء والإخلاص والإيثار في سفينة الحياة الزوجية، بالزوج الذي انسحب مضحياً بالشهرة، وسحر الكاميرا، وكبرياء تحية الجماهير والوقوف على خشبة المسرح؛ الإنسان الفنان محمد صبحي، ليكون بجوار زوجته أثناء رحلة علاجها من السرطان، وعندما سأله أحد المذيعين،
أستاذة أنيسة حسونة، لن يهزمك السرطان، ولا يضيرك كم عضواً استأصلوه من جسدك، ولا شعرك الذي خرّ ساقطاً مع أول جلسة كيماوي، ولا أطرافك التي لم تحملك في لحظات صعبة. لا تسمحي للاكتئاب أن يتسرّب إلى نفسك، ولا لليأس أن يجد ثغرة ينفذ منها إلى قلبك، لأنك لستِ وحدك، فمن دون سابق إنذار، أصبحنا جميعاً معكِ أنتِ وزوجك الرائع وابنتيك وأحفادك
أكتب تعليقك هتا