أقسام الوصول السريع (مربع البحث)

الدليل الشامل للحج والعمرة يوم عرفة من أجل أيام الحج وأعظامه ها وقد بين النبي «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم»  فضل هذا اليوم ومكانته بقوله : (الحج عرفة)(۱). وفي هذا اليوم العظيم معان جليلة تليق بمكانة هذا اليوم العظيم، منها: (١) يوم عرفة يوم من أيام الله حيث يجتمع الجمع الغفير من الحجاج في صعيد واحد ضاحين كاشفي الرؤوس باكين خاضعين، يتجاذب قلوبهم الخوف والرجاء الخوف من عدم القبول بسبب الذنوب والمعاصي والرجاء لسعة رحمة الله جل وعلا، وهذا المشهد العظيم يذكر العبد بجمع يوم التغابن، فمقبول مغفور له، أو مردود معاقب بذنوبه.  يقول ابن قدامة رحمه الله تعالى: (وأما الوقوف بعرفة : فاذكر بما ترى فيه من ازدحام الخلق، وارتفاع أصواتهم، واختلاف لغاتهم موقف القيامة، واجتماع الأمم في ذلك الموطن، واستشفاعهم)(٢).  ويقول محمد رشيد رضا رحمه الله تعالى عن يوم عرفة: (وما أصدق من شبهه بيوم القيامة، وقد يكون التشبيه على أكمله في ذلك المساء، فإنه يكون فيه لكل مؤمن من الشغل بنفسه والتوجه إلى ربه ما لا يعهد مثله في وقت من أوقات حياته، يشعر - والناس محيطون به من كل جانب بأنه في خلوة لا يشغله فيها عن ربه شاغل، ولا يشوب خشوعه له وبكاءه من خشيته وسروره بمناجاته رياء ولا سمعة، بل لا يكاد يخطر بباله أن أحدًا هنالك يرى أحدًا، فما أعجب شأن هذا الاجتماع العظيم الذي يُجمع كل من شهده – بإيمان وعرفان - بين مزايا عبادة الخلوة وعبادة شعائر الاجتماع، بل أقول: ( إن له مزية على سائر الشعائر لا يعرفها إلا من ذاقها) (3).   (۲) هناك فرق بين يوم القيامة ويوم عرفة، وذلك أن الله جل وعلا يجيء يوم القيامة للقضاء والحساب: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ﴾ [الفجر: ٢٢]، فيجازي المحسن على إحسانه، والمسيء على إساءته.  أما موقف يوم عرفة فإن الله جل وعلا يدنو من عباده عشية عرفة دنوا يليق بجلاله وعظمته ليغفر ذنوبهم، ويستجيب دعواتهم، ويعتق رقابهم ويباهي بهم ملائكته ، وقال  «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم»  : ( ما من يوم أكثر من : أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء)(4).  يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (وفي الحديث الصحيح إن الله يدنو عشية عرفة الحديث، فهذا القرب كله خاص)(5). فإذا استشعر الحاج قرب الله جل وعلا، قوي رجاؤه واطمأن قلبه وسمت روحه وأنست نفسه. قال ابن المبارك: جئت إلى سفيان الثوري عشية عرفة، وهو جات على ركبتيه، وعيناه تهملان فالتفت إلي، فقلت له: من أسوأ هذا الجمع حالا؟ قال: الذي يظن أن الله لا يغفر لهم. وروي عن الفضيل أنه نظر إلى نشيج الناس وبكائهم عشية عرفة، فقال: أرأيتم لو أن هؤلاء صاروا إلى رجل فسألوه دانقًا -يعني: سدس درهم- أكان يردُّهم؟ قالوا: لا، قال: والله للمغفرة عند الله أهون من إجابة رجل لهم بدانق(6).  (3) الدعاء في يوم عرفة من مواطن الإجابة، ذلك أنه قد اجتمع فيه قربان قرب الله جل وعلا من أهل الموقف (وإنه ليدنو ثم يباهي بهم (الملائكة وهذا قرب خاص، والقرب الآخر قربه جل وعلا من الداعي قال تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ [البقرة: ١٨٦]. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (فالداعي والساجد يوجه روحه إلى الله، والروح لها عروج يناسبها، فتقرب الله تعالى بلا ريب بحسب تخلصها من الشوائب (7) ، فيكون الله من عز وجل منها قريبًا قربًا يلزم من قربها، ويكون منه قرب آخر كقربه عشية عرفة) (8).  وإذا استحضر الحاج قرب الله جل وعلا منه، وأنه أقرب إليه من كل قريب، فإن ذلك أدعى لمحبته والأنس به، وأدعى لقوة رجائه، وأدعى للخضوع والذل له والتضرع بين يديه، وإظهار الافتقار والحاجة إليه جل وعلا. يقول ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى مبينًا أحوال الناس في دعاء يوم عرفة: (وعما قليل تقف إخوانكم بعرفة في ذلك الموقف فهنيئا لمن رزقه يجأرون إلى الله بقلوب محترقة ودموع مستبقة، فكم فيهم من خائف أزعجه الخوف وأقلقه، ومحب ألهبه الشوق وأحرقه، وراج أحسن الظن بوعد الله وصدقه، وتائب نصح الله في التوبة وصَدَقَه وهارب لجأ إلى باب الله وطرقه، فكم هنالك من مستوجب للنار أنقذه الله ،وأعتقه، ومن أسير للأوزار فكه وأطلقه، وحينئذ يطلع عليهم أرحم الرحماء ويباهي بجمعهم أهل السماء ويدنو ثم يقول: (ما أراد هؤلاء؟).  لقد قَطَعَنا عند وصلهم ،الحرمان، وأعطاهم نهاية سؤلهم الرحمن، وهو الذي أعطى ومنع ووصل وقطع)(9). والدعاء في يوم عرفة وفي غيره نوعان: دعاء مسألة ودعاء عبادة، فدعاء المسألة كطلب نفع أو دفع ضر، وأما دعاء العبادة فهو الذكر.  ويدخل في دعاء العبادة قول ابن عمر : كنا مع رسول الله الا الله في غداة عرفة فمنا المكبر، ومنا المهلل)(10).  يقول شيخ الإسلام مبينًا أن نوعي الدعاء كل منهما متضمن الآخر وداخل فيه: (إن الدعاء هو ذكر للمدعو سبحانه وتعالى، متضمن للطلب والثناء عليه بأوصافه وأسمائه، فهو ذكر وزيادة، كما أن الذكر سمي دعاء لتضمنه للطلب، كما قال لال : (أفضل الدعاء الحمد الله) (11)، فسمي الحمد لله دعاء وهو ثناء محض؛ لأن الحمد متضمن الحب والثناء والحب أعلى أنواع الطلب - إلى أن قال رحمه الله تعالى والمقصود أن كل واحد من الدعاء والذكر يتضمن الآخر ويدخل فيه، وقد قال تعالى: ﴿ وَاذْكُر رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً﴾ [الأعراف: ۲۰۵] ، فأمر تعالى نبيه  «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» أن يذكره في نفسه، قال مجاهد وابن جريج أمروا أن يذكروه في الصدور بالتضرع والاستكانة دون رفع الصوت والصياح، وتأمل كيف قال في آية الذكر : ﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ ، الآية، وفي آية الدعاء: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾ [الأعراف: ٥٥]، فَذَكَر التضرع فيهما معا وهو التذلل، والتمسكن، والانكسار وهو روح الذكر والدعاء)(12).   وقال رحمه الله في موضع آخر: (وقوله تعالى: ﴿ وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ﴾ [الأعراف: ٥٦]، إنما ذكر الأمر بالدعاء لما ذكره معه من الخوف والطمع، فأمر أولاً بدعائه تضرعًا وخُفية، ثم أمر أيضًا أن يكون الدعاء خوفا وطمعا ). فعلى الحاج الإكثار من الذكر والدعاء في هذا اليوم العظيم اقتداء بالنبي «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» و صحبه الكرام رضوان الله عليهم، وألا يكثر من الدعاء ويدع الذكر فكل واحد منهما متضمن للآخر وثمرتهما واحدة. كما ينبغي بل يتأكد عليه الحرص كل الحرص على التضرع إلى الله بصدق وإخلاص حال الذكر والدعاء؛ لأنه روحها، وذكر ودعاء لا روح فيهما قد لا يقبلان، والله المستعان وعليه التكلان.   وقد كان النبي «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» كثير التضرع إلى الله جل وعلا في مناجاته وذكره ودعائه، ومن ذلك تضرعه عليه الصلاة والسلام عشية عرفة.   يقول الشيخ عبد الوهاب بن ناصر الطريري حفظه الله في ذلك: (وأما رسول الله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» فقد قضى عشية يومه ذلك، في حال من التضرع واللهج بالدعاء، حتى ظن أصحابه أنه قد صام يومه ذلك (13)، فأرسلت إليه أم الفضل بقدح لبن، وهو واقف على بعيره، فشرب منه والناس ينظرون إليه، وكان في دعائه رافعًا يديه إلى صدره، حتى رؤي بياض أبطيه، باسطا كفيه كاستطعام المسكين، منكسرا لربه عز وجل خاضعًا خاشعا متذللاً له، مستغرقًا في مناجاته، كأنها يسارع لحظات هذا اليوم أن تفلت لحظة لا يَلْهَجُ فيها بذكر أو يُلطّ فيها بدعوة، حتى أنه عندما اضطربت به راحلته، فسقط خطامها تناوله بيد، وأبقى يده الأخرى مبسوطة يدعو بها.  وكان «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» لهجاً بالثناء على الله تهليلاً وتحميدًا وتلبية ) (14). قال الأوزاعي رحمه الله تعالى: (أفضل الدعاء الإلحاح على الله والتضرع إليه ) (15). والتضرع إلى الله جل جلاله عبادة قلبية لها أثر على الأعضاء والجوارح.  وقد سئل الشيخ سفر بن عبد الرحمن الحوالي حفظه الله عن معنى التضرع وأسبابه، فأجاب بقوله : (ذكرنا أن الإنسان في كل وقت محتاج إلى أن يدعو الله وأن يتضرع إليه، ولعلنا لو رجعنا إلى المعنى اللغوي للتضرع لأفادنا في معرفة المعنى الشرعي. فالتضرع كلمة اشتقت من الضرع، والضرع معروف لذوات الخف من الحيوان، كالأبل والبقر التي يكون فيها ضرع.  والتضرع أن يأتي صغير هذا الحيوان، فيرتضع ويلتقم هذا الثدي، فتراه عند ارتضاعه يلح ويرتفع ويحاول بكل قوته أن يجذب  هذا اللبن، الذي لا يمكن أن يعيش إلا به نعمة من الله وفضلا ففي هذه الصورة البيانية مثل هذا الضرع – إلى أن قال حفظه الله وكذلك أيضًا أصل الإنسان ووجوده، هو من رحمه الله وفضله، ثم كذلك يحتاج أن يرفع يديه وأن يتضرع إلى الله سبحانه وتعالى ويلح في الدعاء، ويجتهد بحرص على ما يقيم حياته ويدفع عنه الشر والسوء، كما يجتهد ويلح ويحرص ذلك الحيوان عندما يرتضع من الثدي أو الضرع.  ولهذا ففي كل وقت وفي كل لحظة نحن لا نستغني عن الله، كان النبي لا يدعو بقوله: «ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين»)(16)(17). والتضرع إلى الله جل وعلا يكون في الذكر والدعاء. فما تضرع مؤمن الله جل وعلا في ذكره إلا وجد حلاوة الإيمان والأنس والفرح والسرور والطمأنينة.  وما تضرع مؤمن الله جل وعلا في دعائه إلا وجد الفرج والرزق والنصر. مراجع   رواه الترمذي رقم (۸۸۹)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي) رقم (٧٠٥) (مختصر منهاج القاصدين) ص (٥٤). نقلاً من الشوق إلى الحرمين) تأليف محمد بن موسى | الشريف ص (٦٤-.٦٥ )   رواه مسلم رقم (١٣٤٨).  (مجموع الفتاوى) (٢٤٠/٥).  (لطائف المعارف) ص (۳۱۲).  أي بقدر تخلصها من الذنوب والمعاصي.(۲) (مجموع الفتاوى) (٢٤١/٥).   انظر (كتاب لطائف المعارف) ص (۳۱۲).  رواه مسلم رقم (١٢٨٤).  رواه الترمذي رقم (۳۳۸۳) ، وابن ماجه رقم (۳۸۰۰)  (مجموع الفتاوى) (١٩/١٥-٢٠).  المصدر السابق (١٥/ ٢٥).  اختلف بعض الصحابة في حجة الوداع في يوم عرفة، فمنهم من قال: أن النبي «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» ومنهم من قال : ليس بصائم، فعن أم الفضل بنت الحارث أن أناسًا اختلفوا عندها يوم عرفة في صوم النبي الله ، فقال بعضهم هو صائم، وقال بعضهم ليس بصائم؛ فأرسلت إليه بقدح وهو واقف على بعيره فشربه)  رواه البخاري رقم (١٦٦١). (كأنك معه : وصفة حجة النبي «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم»  معه) ص (٩٣-٩٥).  (مجموع رسائل الحافظ ابن رجب الحنبلي) (۳۰۷/۱). رواه الحاكم ووافقه الذهبي (٥٤٥١) ، وانظر (صحيح الترغيب والترهيب) للألباني رقم (٦٥٤).  انظر (موقع فضيلة الشيخ سفر بن عبد الرحمن الحوالي)، ارجع إلى عنوان (الطواف بالبيت العتيق) ص (۷۸) ، ففيه حديث عن (الذل والانكسار بين يدي الله جل وعلا)، و(السعي بين الصفا والمروة) ص(۱۰۳)، ففيه حديث عن (الافتقار إلى الله جل وعلا).
يوم عرفة من أجل أيام الحج وأعظامه ها وقد بين النبي «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم»  فضل هذا اليوم ومكانته بقوله : (الحج عرفة)(۱).
وفي هذا اليوم العظيم معان جليلة تليق بمكانة هذا اليوم العظيم، منها:

(١) يوم عرفة يوم من أيام الله حيث يجتمع الجمع الغفير من الحجاج في صعيد واحد ضاحين كاشفي الرؤوس باكين خاضعين، يتجاذب قلوبهم الخوف والرجاء الخوف من عدم القبول بسبب الذنوب والمعاصي والرجاء لسعة رحمة الله جل وعلا، وهذا المشهد العظيم يذكر العبد بجمع يوم التغابن، فمقبول مغفور له، أو مردود معاقب بذنوبه.

يقول ابن قدامة رحمه الله تعالى: (وأما الوقوف بعرفة : فاذكر بما ترى فيه من ازدحام الخلق، وارتفاع أصواتهم، واختلاف لغاتهم موقف القيامة، واجتماع الأمم في ذلك الموطن، واستشفاعهم)(٢).

ويقول محمد رشيد رضا رحمه الله تعالى عن يوم عرفة: (وما أصدق من شبهه بيوم القيامة، وقد يكون التشبيه على أكمله في ذلك المساء، فإنه يكون فيه لكل مؤمن من الشغل بنفسه والتوجه إلى ربه ما لا يعهد مثله في وقت من أوقات حياته، يشعر - والناس محيطون به من كل جانب بأنه في خلوة لا يشغله فيها عن ربه شاغل، ولا يشوب خشوعه له وبكاءه من خشيته وسروره بمناجاته رياء ولا سمعة، بل لا يكاد يخطر بباله أن أحدًا هنالك يرى أحدًا، فما أعجب شأن هذا الاجتماع العظيم الذي يُجمع كل من شهده – بإيمان وعرفان - بين مزايا عبادة الخلوة وعبادة شعائر الاجتماع، بل أقول: ( إن له مزية على سائر الشعائر لا يعرفها إلا من ذاقها) (3). 

(۲) هناك فرق بين يوم القيامة ويوم عرفة، وذلك أن الله جل وعلا يجيء يوم القيامة للقضاء والحساب: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ﴾ [الفجر: ٢٢]، فيجازي المحسن على إحسانه، والمسيء على إساءته.

أما موقف يوم عرفة فإن الله جل وعلا يدنو من عباده عشية عرفة دنوا يليق بجلاله وعظمته ليغفر ذنوبهم، ويستجيب دعواتهم، ويعتق رقابهم ويباهي بهم ملائكته ، وقال  «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم»  : ( ما من يوم أكثر من : أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء)(4).

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (وفي الحديث الصحيح إن الله يدنو عشية عرفة الحديث، فهذا القرب كله خاص)(5).
فإذا استشعر الحاج قرب الله جل وعلا، قوي رجاؤه واطمأن قلبه وسمت روحه وأنست نفسه.
قال ابن المبارك: جئت إلى سفيان الثوري عشية عرفة، وهو جات على ركبتيه، وعيناه تهملان فالتفت إلي، فقلت له: من أسوأ هذا الجمع حالا؟ قال: الذي يظن أن الله لا يغفر لهم.

وروي عن الفضيل أنه نظر إلى نشيج الناس وبكائهم عشية عرفة، فقال: أرأيتم لو أن هؤلاء صاروا إلى رجل فسألوه دانقًا -يعني: سدس درهم- أكان يردُّهم؟ قالوا: لا، قال: والله للمغفرة عند الله أهون من إجابة رجل لهم بدانق(6).

(3) الدعاء في يوم عرفة من مواطن الإجابة، ذلك أنه قد اجتمع فيه قربان قرب الله جل وعلا من أهل الموقف (وإنه ليدنو ثم يباهي بهم (الملائكة وهذا قرب خاص، والقرب الآخر قربه جل وعلا من الداعي قال تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ [البقرة: ١٨٦].

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (فالداعي والساجد يوجه روحه إلى الله، والروح لها عروج يناسبها، فتقرب الله تعالى بلا ريب بحسب تخلصها من الشوائب (7) ، فيكون الله من عز وجل منها قريبًا قربًا يلزم من قربها، ويكون منه قرب آخر كقربه عشية عرفة) (8).

وإذا استحضر الحاج قرب الله جل وعلا منه، وأنه أقرب إليه من كل قريب، فإن ذلك أدعى لمحبته والأنس به، وأدعى لقوة رجائه، وأدعى للخضوع والذل له والتضرع بين يديه، وإظهار الافتقار والحاجة إليه جل وعلا. يقول ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى مبينًا أحوال الناس في دعاء يوم عرفة: (وعما قليل تقف إخوانكم بعرفة في ذلك الموقف فهنيئا لمن رزقه يجأرون إلى الله بقلوب محترقة ودموع مستبقة، فكم فيهم من خائف أزعجه الخوف وأقلقه، ومحب ألهبه الشوق وأحرقه، وراج أحسن الظن بوعد الله وصدقه، وتائب نصح الله في التوبة وصَدَقَه وهارب لجأ إلى باب الله وطرقه، فكم هنالك من مستوجب للنار أنقذه الله ،وأعتقه، ومن أسير للأوزار فكه وأطلقه، وحينئذ يطلع عليهم أرحم الرحماء ويباهي بجمعهم أهل السماء ويدنو ثم يقول: (ما أراد هؤلاء؟).

لقد قَطَعَنا عند وصلهم ،الحرمان، وأعطاهم نهاية سؤلهم الرحمن، وهو الذي أعطى ومنع ووصل وقطع)(9).

والدعاء في يوم عرفة وفي غيره نوعان: دعاء مسألة ودعاء عبادة، فدعاء المسألة كطلب نفع أو دفع ضر، وأما دعاء العبادة فهو الذكر.

ويدخل في دعاء العبادة قول ابن عمر : كنا مع رسول الله الا الله في غداة عرفة فمنا المكبر، ومنا المهلل)(10).

يقول شيخ الإسلام مبينًا أن نوعي الدعاء كل منهما متضمن الآخر وداخل فيه: (إن الدعاء هو ذكر للمدعو سبحانه وتعالى، متضمن للطلب والثناء عليه بأوصافه وأسمائه، فهو ذكر وزيادة، كما أن الذكر سمي دعاء لتضمنه للطلب، كما قال لال : (أفضل الدعاء الحمد الله) (11)، فسمي الحمد لله دعاء وهو ثناء محض؛ لأن الحمد متضمن الحب والثناء والحب أعلى أنواع الطلب - إلى أن قال رحمه الله تعالى والمقصود أن كل واحد من الدعاء والذكر يتضمن الآخر ويدخل فيه، وقد قال تعالى: ﴿ وَاذْكُر رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً﴾ [الأعراف: ۲۰۵] ، فأمر تعالى نبيه  «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» أن يذكره في نفسه، قال مجاهد وابن جريج أمروا أن يذكروه في الصدور بالتضرع والاستكانة دون رفع الصوت والصياح، وتأمل كيف قال في آية الذكر : ﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ ، الآية، وفي آية الدعاء: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾ [الأعراف: ٥٥]، فَذَكَر التضرع فيهما معا وهو التذلل، والتمسكن، والانكسار وهو روح الذكر والدعاء)(12). 

وقال رحمه الله في موضع آخر: (وقوله تعالى: ﴿ وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ﴾ [الأعراف: ٥٦]، إنما ذكر الأمر بالدعاء لما ذكره معه من الخوف والطمع، فأمر أولاً بدعائه تضرعًا وخُفية، ثم أمر أيضًا أن يكون الدعاء خوفا وطمعا ).

فعلى الحاج الإكثار من الذكر والدعاء في هذا اليوم العظيم اقتداء بالنبي «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» و صحبه الكرام رضوان الله عليهم، وألا يكثر من الدعاء ويدع الذكر فكل واحد منهما متضمن للآخر وثمرتهما واحدة. كما ينبغي بل يتأكد عليه الحرص كل الحرص على التضرع إلى الله بصدق وإخلاص حال الذكر والدعاء؛ لأنه روحها، وذكر ودعاء لا روح فيهما قد لا يقبلان، والله المستعان وعليه التكلان. 

وقد كان النبي «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» كثير التضرع إلى الله جل وعلا في مناجاته وذكره ودعائه، ومن ذلك تضرعه عليه الصلاة والسلام عشية عرفة. 

يقول الشيخ عبد الوهاب بن ناصر الطريري حفظه الله في ذلك: (وأما رسول الله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» فقد قضى عشية يومه ذلك، في حال من التضرع واللهج بالدعاء، حتى ظن أصحابه أنه قد صام يومه ذلك (13)، فأرسلت إليه أم الفضل بقدح لبن، وهو واقف على بعيره، فشرب منه والناس ينظرون إليه، وكان في دعائه رافعًا يديه إلى صدره، حتى رؤي بياض أبطيه، باسطا كفيه كاستطعام المسكين، منكسرا لربه عز وجل خاضعًا خاشعا متذللاً له، مستغرقًا في مناجاته، كأنها يسارع لحظات هذا اليوم أن تفلت لحظة لا يَلْهَجُ فيها بذكر أو يُلطّ فيها بدعوة، حتى أنه عندما اضطربت به راحلته، فسقط خطامها تناوله بيد، وأبقى يده الأخرى مبسوطة يدعو بها.

وكان «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» لهجاً بالثناء على الله تهليلاً وتحميدًا وتلبية ) (14).
قال الأوزاعي رحمه الله تعالى: (أفضل الدعاء الإلحاح على الله والتضرع إليه ) (15).
والتضرع إلى الله جل جلاله عبادة قلبية لها أثر على الأعضاء والجوارح.

وقد سئل الشيخ سفر بن عبد الرحمن الحوالي حفظه الله عن معنى التضرع وأسبابه، فأجاب بقوله : (ذكرنا أن الإنسان في كل وقت محتاج إلى أن يدعو الله وأن يتضرع إليه، ولعلنا لو رجعنا إلى المعنى اللغوي للتضرع لأفادنا في معرفة المعنى الشرعي. فالتضرع كلمة اشتقت من الضرع، والضرع معروف لذوات الخف من الحيوان، كالأبل والبقر التي يكون فيها ضرع.

والتضرع أن يأتي صغير هذا الحيوان، فيرتضع ويلتقم هذا الثدي، فتراه عند ارتضاعه يلح ويرتفع ويحاول بكل قوته أن يجذب  هذا اللبن، الذي لا يمكن أن يعيش إلا به نعمة من الله وفضلا ففي هذه الصورة البيانية مثل هذا الضرع – إلى أن قال حفظه الله وكذلك أيضًا أصل الإنسان ووجوده، هو من رحمه الله وفضله، ثم كذلك يحتاج أن يرفع يديه وأن يتضرع إلى الله سبحانه وتعالى ويلح في الدعاء، ويجتهد بحرص على ما يقيم حياته ويدفع عنه الشر والسوء، كما يجتهد ويلح ويحرص ذلك الحيوان عندما يرتضع من الثدي أو الضرع.

ولهذا ففي كل وقت وفي كل لحظة نحن لا نستغني عن الله، كان النبي لا يدعو بقوله: «ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين»)(16)(17).

والتضرع إلى الله جل وعلا يكون في الذكر والدعاء. فما تضرع مؤمن الله جل وعلا في ذكره إلا وجد حلاوة الإيمان والأنس والفرح والسرور والطمأنينة.

وما تضرع مؤمن الله جل وعلا في دعائه إلا وجد الفرج والرزق والنصر.

مراجع

  1.  رواه الترمذي رقم (۸۸۹)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي) رقم (٧٠٥)
  2. (مختصر منهاج القاصدين) ص (٥٤).
  3. نقلاً من الشوق إلى الحرمين) تأليف محمد بن موسى | الشريف ص (٦٤-.٦٥ ) 
  4.  رواه مسلم رقم (١٣٤٨). 
  5. (مجموع الفتاوى) (٢٤٠/٥). 
  6. (لطائف المعارف) ص (۳۱۲). 
  7. أي بقدر تخلصها من الذنوب والمعاصي.(۲) (مجموع الفتاوى) (٢٤١/٥).  
  8. انظر (كتاب لطائف المعارف) ص (۳۱۲). 
  9. رواه مسلم رقم (١٢٨٤). 
  10. رواه الترمذي رقم (۳۳۸۳) ، وابن ماجه رقم (۳۸۰۰) 
  11. (مجموع الفتاوى) (١٩/١٥-٢٠). 
  12. المصدر السابق (١٥/ ٢٥). 
  13. اختلف بعض الصحابة في حجة الوداع في يوم عرفة، فمنهم من قال: أن النبي «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» ومنهم من قال : ليس بصائم، فعن أم الفضل بنت الحارث أن أناسًا اختلفوا عندها يوم عرفة في صوم النبي الله ، فقال بعضهم هو صائم، وقال بعضهم ليس بصائم؛ فأرسلت إليه بقدح وهو واقف على بعيره فشربه)  رواه البخاري رقم (١٦٦١).
  14. (كأنك معه : وصفة حجة النبي «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم»  معه) ص (٩٣-٩٥). 
  15. (مجموع رسائل الحافظ ابن رجب الحنبلي) (۳۰۷/۱).
  16. رواه الحاكم ووافقه الذهبي (٥٤٥١) ، وانظر (صحيح الترغيب والترهيب) للألباني رقم (٦٥٤). 
  17. انظر (موقع فضيلة الشيخ سفر بن عبد الرحمن الحوالي)، ارجع إلى عنوان (الطواف بالبيت العتيق) ص (۷۸) ، ففيه حديث عن (الذل والانكسار بين يدي الله جل وعلا)، و(السعي بين الصفا والمروة) ص(۱۰۳)، ففيه حديث عن (الافتقار إلى الله جل وعلا).
تعليقات