قراءة نقديّة في مسرحيّة "ثلّاجة الموتى" للدّكتور علي الشّوابكة

أقسام الوصول السريع (مربع البحث)

قراءة نقديّة في مسرحيّة "ثلّاجة الموتى" للدّكتور علي الشّوابكة

بقلم د. دورين نصر سفر من المعقول إلى اللّامعقول سأنطلق في هذه القراءة من أمر بسيط للغاية، وهو أنّ المسرح يجب أن يكون مسرحًا، بمعنى أن يقدّم مسرحيّة، لا محاضرة أو قصّة أو حشدًا من الأفكار أو منشورًا دعائيًّا. وهذا يعني طرح أسئلة أساسيّة: لماذا المسرح على الإطلاق؟ هل لخشبة المسرح مكان حقيقيّ في حياتنا؟ أيّة وظيفة يمكن أن تؤدّيها؟ ما خصائصها وما سماتها العامّة؟ لعلّ هذه الأسئلة أجاب عنها بيتر بروك في كتابه الشّهير "النّقطة المتحوّلة"، ودفعتني للبحث في العمل الذي قدّمه لنا د. علي الشّوابكة، لا سيّما أنّ الفنّ المسرحيّ من أكثر فنون الأدب متعة واستعصاء في آن معًا على كاتبه، ومن أشدِّها حاجة إلى مهارة فنّيّة خاصّة تستطيع أن تؤالف بين عناصر هذا الفنّ المتشعّبة من نصّ وممثّل ومخرج وجمهور وسينوغرافيّ، وأن تتضافر كلّها من غير تنافر حتّى يصل الكاتب إلى عمل فنّيّ متكامل.  ولأنّ المسرحيّة لا يمكنها في حدود الزّمن المحدّد لها أن تعالج أفعال الإنسان بالحرّيّة نفسها التي تعالجُها بها القصّة المرويّة، فإنّها تختار من الفعل جانبَه المثير، والأكثر قدرة على الإيحاء، والأوثق صلة بالحدث الرّئيسيّ أو بما يسمّيه ستانسلافسكي (Stanislavski) بخطّ الفعل المتّصل، والذي يُعَدّ بمثابة العمود الفقريّ لكلّ مسرحيّة.  وعلي الشّوابكة عمل على شدّ فِقر هذا العمود في مسرحيّة "ثلّاجة الموتى"، فنجده يضع المتلقّي في قلب التّجربة المسرحيّة، ويلقي عليه عبئَها: فهل يودّ أن يتغيّر شيء في نفسه، في حياته، في مجتمعه؟ إذا لم يكن يريد فهو ليس بحاجة إلى المسرح، من حيث هو امتحان قاس، منظار مقرّب، أضواء كاشفة، مكان للمواجهة. من ناحية أخرى، قد يودّ أن يكون المسرح هذا كلّه. في هذه الحالة لن يصبح بحاجة إلى المسرح فقط، لكنّه بحاجة إلى كلّ شيء يستخرجه منه، إنّه بحاجة ملحّة إلى الأثر الذي يخدش.  بعد الحربين العالميّتين الأولى والثّانية، ازداد إدراك الإنسان بحتميّة التّغيير، بحيث لم يعد الواقع شيئًا ثابتًا ملموسًا، بل أصبح عبارة عن شكّ؛ وهي النّظرة التي سادت فيما بعد العصر الحديث واقترنت به، حيث بدأ أرباب المسرح يشعرون بأنّ الحقيقة تتغيّر. وفي هذا الصّدد يقول أوجين يونسكو (Eugène Ionesco) عن نفسه: "أعتقد أنّ الوقت لم يحن بعد ما إذا كنّا قد أتينا بشيء جديد أو لا". فبعد الكوارث التي خلّفتها الحرب العالميّة الثّانية في العالم، ولا سيّما في أوروبا، تولّد داخل الإنسان شعور بالإحباط والقلق وعبثيّة الحياة، فأدرك العديد من الكتّاب أنّه لا توجد حقيقة ثابتة، وكلّ شيء متغيّر ونسبيّ. وبعد التّغيير الذي عرفه العالم الأوروبيّ، كان حتمًا على الفنّ أن يفقد شكله. وقد مثّل هذا الاتّجاه روّاد مسرح العبث، وعلى رأسهم: يونسكو وأداموف (Adamov) وبيكيت (Beckett) وغيرهم... والجدير بالذّكر أنّ تيّار العبث الذي نشأ في أوروبا في أوائل خمسينيّات القرن الماضي، جعل المرء يفكّر في عبثيّة هذه الحياة، وسَعْي الإنسان إلى الجاه والسّيطرة والسّلطة، حتّى أدّى به الأمر إلى قتل أخيه من أجل مجد زائل، فينتهي عند عتبة الموت.  وإذا كان ألبير كامو (Albert Camus) أوّل مَن استخدم كلمتَي "العَبَث" و"اللّامعقول" في مقالته: "أسطورة سيزيف" لوصف حالة الإنسان والتّعبير عن فراغه الوجوديّ، فالشّوابكة في مسرحيّته أعلن من خلال شخصيّاته التّمرّد على الحياة؛ فهل هي عبثيّة الإرادة الإنسانيّة؟ أو عبثيّة الوجود في عالم فقد الإنسان فيه ثقتَه واتّجاهَه؟ في الواقع، إنّ الحركة والنّصّ غالبًا ما يكونان متلازمين، إذ مهما كانت مخيّلة القارئ واسعة، فإنّها لا تستطيع أن تعطيه الانفعال الخاصّ الذي يقدّمه عرض المسرحيّة على الخشبة.  من هنا، تعاملت مع هذه المسرحيّة كنصّ، محاولة رصد التّقنيّات التي وظّفها الكاتب في هذا الإنتاج الإبداعيّ، ونحن نعلم أنّ المسرح هو العالم الذي يجمع عالمين منفصلين: عالم الواقع أي الجمهور، وعالم الخيال أي الخشبة عندما تدبّ فيها الحياة، وذلك بوجود نصّ وممثّل ومكان يجري فيه الحدث. والمكان في هذه المسرحيّة هو ثلّاجة الموتى. فهل أكثر من هذا العنوان إيحاءً وإثارة لمشاعر النّفور؟ لقد أثار فينا الشّوابكة منذ العنوان هذه المشاعر، ولكنّها علامة فارقة في الإبداع العالميّ، ألم تحقّق قصيدة "الجيفة" لشارل بودلير (Charles Baudelaire) نجاحًا عالميًّا وهي تصوّر البشاعة؟ والجدير بالذّكر أنّ علي الشّوابكة في مسرحيّته لا يوظّف فلسفته وأدواته لتؤثّث تفاصيل المسرحيّة وأحداثها فحسب، وإنّما يحاول أن يشرك القارئ في هذا العمل من خلال رسمه الإطار العامّ لهذه المسرحيّة: "غرفة تتوسّطها ثلّاجة الموتى، في زاوية الغرفة يظهر برميل قُمامة". المسرحيّة من فصل واحد، تحرّك أحداثَها شخصيّتان أساسيّتان: امرأة، وهي عاملة تنظيف في قسم ثلّاجة الموتى، ورجل، وهو جامع خردوات، إضافة إلى الطّبيب المناوب. واللّافت أنّه لا زمان في هذه المسرحيّة، ولا أسماء تحدّد الشّخصيّات. بالتّالي، بإمكاننا تمييز متكلّم عن آخر من خلال صفاته والحركات التي يؤدّيها. وما لفتنا في الواقع في مستهلّ المسرحيّة حوار عاملة التّنظيف مع الموتى. هذا الحوار الذي يدلّ على عبثيّة الحياة وخلوِّها من منطق الجدوى والماهيّة من جهة، ويسلّط الضّوء على فئات اجتماعيّة مختلفة متواجدة في ثلّاجات الموتى. في الدّرج الأوّل: عامل إسمنت، في الدّرج الثّاني سيّدة أعمال تخاطبها عاملة التّنظيف بسخرية قائلة: "نسيتُ أنّ أنفَك تعوّد العطور الباريسيّة التي تركتِها لأولادك الذين لم يتّفقوا على موعد الجنازة".  وتردف قائلة: "آسفة سيّدتي لم أكن أعلم أنّك حسّاسة لهذه الدّرجة، حقًّا إنّني غبيّة، لقد كانت عطسة رجل لا يعرف النّظافة". "إنّ المرأة تعطس هكذا... تعطس بنعومة وبخاصّة إذا كانت من سيّدات الأعمال ومن الطّبقة المخمليّة". أحببتُ أن أتوقّف عند هذا الحوار الذي أجرته عاملة التّنظيف مع المرأة الميتة الموجودة في الدّرج الثّاني، لأنّه لا يُظهر تمرّد الكاتب على النّمط التّقليديّ للمسرح فحسب، بل يتعدّى ذلك إلى اللّغة نفسها إذ تبدو مصطلحاتُه مكتنزة بالحمولات الدّلاليّة، فتمكّن بالتّالي من تجسيد الواقع من خلال حوار يقوم بين حيّ وميت، ما أظهر تفاهة الحياة الدّنيا، إذ يخرج الإنسان بخُفَّي حُنين: سيّدة الأعمال الثّريّة المُعتادة على العطور الباريسيّة تُعطّر بصابون غسل الموتى، والسّياسيّون والمقاولون وغيرُهم ممّن يجنون الثّروات على حساب أرواح بريئة دأبهم العمل على تحقيق غاياتهم الشّخصيّة على حساب المصلحة العامّة.  لقد حاول الشّوابكة في مسرحيّته أن يبني عالمًا موازيًا لعالم الواقع. فنستشفّ بالتّالي أسلوب الصّدمة في خطابه المسرحيّ السّاخر من الطّبقة البرجوازيّة. كذلك يظهر وعي الكاتب للأسلوب اللّغويّ الموظّف في الحوار بين المرأة عاملة التّنظيف والرّجل عامل الخردوات، ويبرّر عدم التّفاوت في مستوى الخطاب بينهما بالجملة التّالية التي وردت على لسان المرأة: "من أين جئتَ بكلّ هذا التّهذيب وأنتَ من الهامش البعيد؟" يجيب الرّجل: "من الأفلام".  وعليه، من خلال الحوار نلاحظ كيف تتنامى الأحداث بشكل تصاعديّ. وقد تجلّت قدرة الكاتب على إعطاء كلّ شخصيّة الدّرجة نفسها من القابليّة للتّصديق. ما يبيّن أنّ الشّوابكة يقدّم صورة تنتمي إلى خشبة المسرح، وعلاقات تنتمي إليها. ويستمرّ التّعرّف على الموتى: في الدّرج الثّالث: شابّ انتحر من أجل حبيبته، وفي درج آخر: المقاول الكبير الذي شقّ الطّريق الطّويلة التي لم ينتهِ العمل بها، وابتلعت النّاس، فيخاطبه عامل الخردوات قائلًا: "إلى مزبلة التّاريخ".  في الواقع، لم يتوانَ الشّوابكة أثناء كتابة هذا المشهد من توظيف مؤثّرات صوتيّة، ما يساعد المتلقّي على تخيّل سير الأحداث على خشبة المسرح. فنبرة الصّوت، والتّصرّفات، وحركات الأجسام، وتعابير الوجه، وتشكيل أساريره، كلّها من الوسائل التي تعكس الشّخصيّة الإنسانيّة في طبائعها وحبّها وانفعالها.  كما تتسرّب رائحة الموت إلى المتلقّي حين يقرأ: -"إنّ صابون الموتى طيّب الرّائحة". -"يداك مفعمتان بالموت". -"مناشف الموتى". -"إنّ جسدك مفعم بالموت".  هكذا، يشارك القارئ الكاتب في عمليّة كتابة النّصّ، فيوظّف كلّ حواسّه أثناء قراءة المشهد، ما يخلق نوعًا من التّوحّد بين المتكلّم والمتلقّي. ويسمع هذا الأخير الموسيقى الرّاقصة، ورنّة الهاتف، وصوت الضّحك، ويشمّ رائحة المزبلة. وتتحقّق الصّدمة حين تقول المرأة ساخرة بعد أن طلب الرّجل يدها للزّواج: "ستجدُ ضالّتك هناك... في مزبلة التّاريخ أوسمة من الذّهب الخالص غالية الثّمن لقادة الحروب وساسة الموت وسماسرة السّلاح والجوع".  هكذا، نلاحظ أنّ الكاتب يحتجب خلف شخصيّاته ليكشف عن أوجه الخلل النّاجم عن الأنساق الاجتماعيّة السّائدة، فتكشف لغته عن أنّ البنى اللّغويّة هي انعكاس لبنى المجتمع وقيمه. والشّوابكة يعيش هذين الواقعين: السّياسيّ والاجتماعيّ، فإذا بمظاهر العبث تتجلّى واضحة في المسرحيّة. ففضلًا عن القلق الذي يسيطر على الشّخصيّات يبرز عامل الوحدة الذي نستشفّه من خلال قول المرأة عن الأموات: "إنّهم أهلي"، والشّعور بالموت في الحياة الذي يعيشه البطلان عندما سأل كلٌّ منهما الآخر: "هل تخاف العتمة؟" "الأموات لا يخشون شيئًا". وذلك نتيجة اليأس من حياة تُحطِّم الآمال، وتثير القلق والخوف على مستقبل لم يعد إنسان اليوم يرى فيه سوى الحرب التي قد تهيمن عليه، الأمر الذي تبيّن من خلال المشهديّات المتخيّلة للمستقبل. هكذا يشعر المتلقّي أنّه أمام عالمين: عالم الأموات وعالم الأحياء. عالمان في المكان نفسه تربط بينهما شعرة غير مرئيّة تسهم في البناء العامّ للسّيناريو، وتضيف عمقًا ودلالة خاصّة إلى العمل.  فمسرحيّة "ثلّاجة الموتى" طرحت مشكلة ماهيّة الإنسان، إذ إنّ الحياة ليست سوى رحلة قصيرة من الرّحم إلى القبر. ولعلّ انتهاء الفصل بمشهد الموت يُبرز التّشاؤم الذي يُعتبر أبرز وجه للعبث في هذا النّوع من المسرحيّات، ولكنّه تجلّى في صورة فنّيّة جديدة، إذ اعتمد الكاتب فنّيّة التّوالي، مع أنّه توالٍ خطر حيث بين العبارة والعبارة مهواة أو سلّم يهبط فجأة من سماء ما، هبطة تلو هبطة. لكنّ نافذة بعد نافذة تعبر الأحوال، تعبر مفترقات، كما في قاعدة متعدّدة المرايا، فيها العبارات المتشابهة-المتضادّة، تأخذنا في أرجوحة بين الوعي واللّاوعي، نسافر من المعقول إلى اللّامعقول. وكما يقوم المونتاج بالتّوليف في عمليّة الرّبط بين لقطة سينمائيّة وأخرى، وتتولّد عن ذلك فكرة معيّنة، يسعى المخرج إلى إيصالها، عمد علي الشّوابكة إلى ذلك التّوليف بين المشاهد بغية توليد فكرة متناسقة مع ما سبقها ومتّسقة مع ما بعدَها، ما يظهر مقدرته العالية على بناء اللّقطات وتوليفها. كما تكمن قيمة هذه المسرحيّة في أنّها تؤسّس لوعي جماليّ جديد يكون قادرًا على تحريض الوعي العامّ ودفعه إلى تجديد أدواته وأساليبه، إذ تعتمد على مبدأ عدم التّوقّع. لذلك أتت صادمة للذّوق النّمطيّ، وللقارئ الذي يستهويه المسرح التّقليديّ.  فبين الموت والحياة تفتح "ثلّاجة الموتى" نافذة يتأمّل الإنسان من خلالها في المستقبل وتفاهة هذه الحياة الفانية، ويطلّ عليه التّاريخ ماردًا عملاقًا يحمل بَرميل قُمامة يجمع فيه مدمّري النّفس والجسد ليرميَهم في "مزبلة التّاريخ"، لعلّهم يكونون درسًا يمحو أمّيّة العقول المتعفّنة التي تسيطر عليها الأنا الفرديّة القاتلة. فهل من متّعظ؟

 بقلم د. دورين نصر

سفر من المعقول إلى اللّامعقول

سأنطلق في هذه القراءة من أمر بسيط للغاية، وهو أنّ المسرح يجب أن يكون مسرحًا، بمعنى أن يقدّم مسرحيّة، لا محاضرة أو قصّة أو حشدًا من الأفكار أو منشورًا دعائيًّا. وهذا يعني طرح أسئلة أساسيّة: لماذا المسرح على الإطلاق؟ هل لخشبة المسرح مكان حقيقيّ في حياتنا؟ أيّة وظيفة يمكن أن تؤدّيها؟ ما خصائصها وما سماتها العامّة؟

لعلّ هذه الأسئلة أجاب عنها بيتر بروك في كتابه الشّهير "النّقطة المتحوّلة"، ودفعتني للبحث في العمل الذي قدّمه لنا د. علي الشّوابكة، لا سيّما أنّ الفنّ المسرحيّ من أكثر فنون الأدب متعة واستعصاء في آن معًا على كاتبه، ومن أشدِّها حاجة إلى مهارة فنّيّة خاصّة تستطيع أن تؤالف بين عناصر هذا الفنّ المتشعّبة من نصّ وممثّل ومخرج وجمهور وسينوغرافيّ، وأن تتضافر كلّها من غير تنافر حتّى يصل الكاتب إلى عمل فنّيّ متكامل.

ولأنّ المسرحيّة لا يمكنها في حدود الزّمن المحدّد لها أن تعالج أفعال الإنسان بالحرّيّة نفسها التي تعالجُها بها القصّة المرويّة، فإنّها تختار من الفعل جانبَه المثير، والأكثر قدرة على الإيحاء، والأوثق صلة بالحدث الرّئيسيّ أو بما يسمّيه ستانسلافسكي (Stanislavski) بخطّ الفعل المتّصل، والذي يُعَدّ بمثابة العمود الفقريّ لكلّ مسرحيّة.
بقلم د. دورين نصر سفر من المعقول إلى اللّامعقول سأنطلق في هذه القراءة من أمر بسيط للغاية، وهو أنّ المسرح يجب أن يكون مسرحًا، بمعنى أن يقدّم مسرحيّة، لا محاضرة أو قصّة أو حشدًا من الأفكار أو منشورًا دعائيًّا. وهذا يعني طرح أسئلة أساسيّة: لماذا المسرح على الإطلاق؟ هل لخشبة المسرح مكان حقيقيّ في حياتنا؟ أيّة وظيفة يمكن أن تؤدّيها؟ ما خصائصها وما سماتها العامّة؟ لعلّ هذه الأسئلة أجاب عنها بيتر بروك في كتابه الشّهير "النّقطة المتحوّلة"، ودفعتني للبحث في العمل الذي قدّمه لنا د. علي الشّوابكة، لا سيّما أنّ الفنّ المسرحيّ من أكثر فنون الأدب متعة واستعصاء في آن معًا على كاتبه، ومن أشدِّها حاجة إلى مهارة فنّيّة خاصّة تستطيع أن تؤالف بين عناصر هذا الفنّ المتشعّبة من نصّ وممثّل ومخرج وجمهور وسينوغرافيّ، وأن تتضافر كلّها من غير تنافر حتّى يصل الكاتب إلى عمل فنّيّ متكامل.  ولأنّ المسرحيّة لا يمكنها في حدود الزّمن المحدّد لها أن تعالج أفعال الإنسان بالحرّيّة نفسها التي تعالجُها بها القصّة المرويّة، فإنّها تختار من الفعل جانبَه المثير، والأكثر قدرة على الإيحاء، والأوثق صلة بالحدث الرّئيسيّ أو بما يسمّيه ستانسلافسكي (Stanislavski) بخطّ الفعل المتّصل، والذي يُعَدّ بمثابة العمود الفقريّ لكلّ مسرحيّة.  وعلي الشّوابكة عمل على شدّ فِقر هذا العمود في مسرحيّة "ثلّاجة الموتى"، فنجده يضع المتلقّي في قلب التّجربة المسرحيّة، ويلقي عليه عبئَها: فهل يودّ أن يتغيّر شيء في نفسه، في حياته، في مجتمعه؟ إذا لم يكن يريد فهو ليس بحاجة إلى المسرح، من حيث هو امتحان قاس، منظار مقرّب، أضواء كاشفة، مكان للمواجهة. من ناحية أخرى، قد يودّ أن يكون المسرح هذا كلّه. في هذه الحالة لن يصبح بحاجة إلى المسرح فقط، لكنّه بحاجة إلى كلّ شيء يستخرجه منه، إنّه بحاجة ملحّة إلى الأثر الذي يخدش.  بعد الحربين العالميّتين الأولى والثّانية، ازداد إدراك الإنسان بحتميّة التّغيير، بحيث لم يعد الواقع شيئًا ثابتًا ملموسًا، بل أصبح عبارة عن شكّ؛ وهي النّظرة التي سادت فيما بعد العصر الحديث واقترنت به، حيث بدأ أرباب المسرح يشعرون بأنّ الحقيقة تتغيّر. وفي هذا الصّدد يقول أوجين يونسكو (Eugène Ionesco) عن نفسه: "أعتقد أنّ الوقت لم يحن بعد ما إذا كنّا قد أتينا بشيء جديد أو لا". فبعد الكوارث التي خلّفتها الحرب العالميّة الثّانية في العالم، ولا سيّما في أوروبا، تولّد داخل الإنسان شعور بالإحباط والقلق وعبثيّة الحياة، فأدرك العديد من الكتّاب أنّه لا توجد حقيقة ثابتة، وكلّ شيء متغيّر ونسبيّ. وبعد التّغيير الذي عرفه العالم الأوروبيّ، كان حتمًا على الفنّ أن يفقد شكله. وقد مثّل هذا الاتّجاه روّاد مسرح العبث، وعلى رأسهم: يونسكو وأداموف (Adamov) وبيكيت (Beckett) وغيرهم... والجدير بالذّكر أنّ تيّار العبث الذي نشأ في أوروبا في أوائل خمسينيّات القرن الماضي، جعل المرء يفكّر في عبثيّة هذه الحياة، وسَعْي الإنسان إلى الجاه والسّيطرة والسّلطة، حتّى أدّى به الأمر إلى قتل أخيه من أجل مجد زائل، فينتهي عند عتبة الموت.  وإذا كان ألبير كامو (Albert Camus) أوّل مَن استخدم كلمتَي "العَبَث" و"اللّامعقول" في مقالته: "أسطورة سيزيف" لوصف حالة الإنسان والتّعبير عن فراغه الوجوديّ، فالشّوابكة في مسرحيّته أعلن من خلال شخصيّاته التّمرّد على الحياة؛ فهل هي عبثيّة الإرادة الإنسانيّة؟ أو عبثيّة الوجود في عالم فقد الإنسان فيه ثقتَه واتّجاهَه؟ في الواقع، إنّ الحركة والنّصّ غالبًا ما يكونان متلازمين، إذ مهما كانت مخيّلة القارئ واسعة، فإنّها لا تستطيع أن تعطيه الانفعال الخاصّ الذي يقدّمه عرض المسرحيّة على الخشبة.  من هنا، تعاملت مع هذه المسرحيّة كنصّ، محاولة رصد التّقنيّات التي وظّفها الكاتب في هذا الإنتاج الإبداعيّ، ونحن نعلم أنّ المسرح هو العالم الذي يجمع عالمين منفصلين: عالم الواقع أي الجمهور، وعالم الخيال أي الخشبة عندما تدبّ فيها الحياة، وذلك بوجود نصّ وممثّل ومكان يجري فيه الحدث. والمكان في هذه المسرحيّة هو ثلّاجة الموتى. فهل أكثر من هذا العنوان إيحاءً وإثارة لمشاعر النّفور؟ لقد أثار فينا الشّوابكة منذ العنوان هذه المشاعر، ولكنّها علامة فارقة في الإبداع العالميّ، ألم تحقّق قصيدة "الجيفة" لشارل بودلير (Charles Baudelaire) نجاحًا عالميًّا وهي تصوّر البشاعة؟ والجدير بالذّكر أنّ علي الشّوابكة في مسرحيّته لا يوظّف فلسفته وأدواته لتؤثّث تفاصيل المسرحيّة وأحداثها فحسب، وإنّما يحاول أن يشرك القارئ في هذا العمل من خلال رسمه الإطار العامّ لهذه المسرحيّة: "غرفة تتوسّطها ثلّاجة الموتى، في زاوية الغرفة يظهر برميل قُمامة". المسرحيّة من فصل واحد، تحرّك أحداثَها شخصيّتان أساسيّتان: امرأة، وهي عاملة تنظيف في قسم ثلّاجة الموتى، ورجل، وهو جامع خردوات، إضافة إلى الطّبيب المناوب. واللّافت أنّه لا زمان في هذه المسرحيّة، ولا أسماء تحدّد الشّخصيّات. بالتّالي، بإمكاننا تمييز متكلّم عن آخر من خلال صفاته والحركات التي يؤدّيها. وما لفتنا في الواقع في مستهلّ المسرحيّة حوار عاملة التّنظيف مع الموتى. هذا الحوار الذي يدلّ على عبثيّة الحياة وخلوِّها من منطق الجدوى والماهيّة من جهة، ويسلّط الضّوء على فئات اجتماعيّة مختلفة متواجدة في ثلّاجات الموتى. في الدّرج الأوّل: عامل إسمنت، في الدّرج الثّاني سيّدة أعمال تخاطبها عاملة التّنظيف بسخرية قائلة: "نسيتُ أنّ أنفَك تعوّد العطور الباريسيّة التي تركتِها لأولادك الذين لم يتّفقوا على موعد الجنازة".  وتردف قائلة: "آسفة سيّدتي لم أكن أعلم أنّك حسّاسة لهذه الدّرجة، حقًّا إنّني غبيّة، لقد كانت عطسة رجل لا يعرف النّظافة". "إنّ المرأة تعطس هكذا... تعطس بنعومة وبخاصّة إذا كانت من سيّدات الأعمال ومن الطّبقة المخمليّة". أحببتُ أن أتوقّف عند هذا الحوار الذي أجرته عاملة التّنظيف مع المرأة الميتة الموجودة في الدّرج الثّاني، لأنّه لا يُظهر تمرّد الكاتب على النّمط التّقليديّ للمسرح فحسب، بل يتعدّى ذلك إلى اللّغة نفسها إذ تبدو مصطلحاتُه مكتنزة بالحمولات الدّلاليّة، فتمكّن بالتّالي من تجسيد الواقع من خلال حوار يقوم بين حيّ وميت، ما أظهر تفاهة الحياة الدّنيا، إذ يخرج الإنسان بخُفَّي حُنين: سيّدة الأعمال الثّريّة المُعتادة على العطور الباريسيّة تُعطّر بصابون غسل الموتى، والسّياسيّون والمقاولون وغيرُهم ممّن يجنون الثّروات على حساب أرواح بريئة دأبهم العمل على تحقيق غاياتهم الشّخصيّة على حساب المصلحة العامّة.  لقد حاول الشّوابكة في مسرحيّته أن يبني عالمًا موازيًا لعالم الواقع. فنستشفّ بالتّالي أسلوب الصّدمة في خطابه المسرحيّ السّاخر من الطّبقة البرجوازيّة. كذلك يظهر وعي الكاتب للأسلوب اللّغويّ الموظّف في الحوار بين المرأة عاملة التّنظيف والرّجل عامل الخردوات، ويبرّر عدم التّفاوت في مستوى الخطاب بينهما بالجملة التّالية التي وردت على لسان المرأة: "من أين جئتَ بكلّ هذا التّهذيب وأنتَ من الهامش البعيد؟" يجيب الرّجل: "من الأفلام".  وعليه، من خلال الحوار نلاحظ كيف تتنامى الأحداث بشكل تصاعديّ. وقد تجلّت قدرة الكاتب على إعطاء كلّ شخصيّة الدّرجة نفسها من القابليّة للتّصديق. ما يبيّن أنّ الشّوابكة يقدّم صورة تنتمي إلى خشبة المسرح، وعلاقات تنتمي إليها. ويستمرّ التّعرّف على الموتى: في الدّرج الثّالث: شابّ انتحر من أجل حبيبته، وفي درج آخر: المقاول الكبير الذي شقّ الطّريق الطّويلة التي لم ينتهِ العمل بها، وابتلعت النّاس، فيخاطبه عامل الخردوات قائلًا: "إلى مزبلة التّاريخ".  في الواقع، لم يتوانَ الشّوابكة أثناء كتابة هذا المشهد من توظيف مؤثّرات صوتيّة، ما يساعد المتلقّي على تخيّل سير الأحداث على خشبة المسرح. فنبرة الصّوت، والتّصرّفات، وحركات الأجسام، وتعابير الوجه، وتشكيل أساريره، كلّها من الوسائل التي تعكس الشّخصيّة الإنسانيّة في طبائعها وحبّها وانفعالها.  كما تتسرّب رائحة الموت إلى المتلقّي حين يقرأ: -"إنّ صابون الموتى طيّب الرّائحة". -"يداك مفعمتان بالموت". -"مناشف الموتى". -"إنّ جسدك مفعم بالموت".  هكذا، يشارك القارئ الكاتب في عمليّة كتابة النّصّ، فيوظّف كلّ حواسّه أثناء قراءة المشهد، ما يخلق نوعًا من التّوحّد بين المتكلّم والمتلقّي. ويسمع هذا الأخير الموسيقى الرّاقصة، ورنّة الهاتف، وصوت الضّحك، ويشمّ رائحة المزبلة. وتتحقّق الصّدمة حين تقول المرأة ساخرة بعد أن طلب الرّجل يدها للزّواج: "ستجدُ ضالّتك هناك... في مزبلة التّاريخ أوسمة من الذّهب الخالص غالية الثّمن لقادة الحروب وساسة الموت وسماسرة السّلاح والجوع".  هكذا، نلاحظ أنّ الكاتب يحتجب خلف شخصيّاته ليكشف عن أوجه الخلل النّاجم عن الأنساق الاجتماعيّة السّائدة، فتكشف لغته عن أنّ البنى اللّغويّة هي انعكاس لبنى المجتمع وقيمه. والشّوابكة يعيش هذين الواقعين: السّياسيّ والاجتماعيّ، فإذا بمظاهر العبث تتجلّى واضحة في المسرحيّة. ففضلًا عن القلق الذي يسيطر على الشّخصيّات يبرز عامل الوحدة الذي نستشفّه من خلال قول المرأة عن الأموات: "إنّهم أهلي"، والشّعور بالموت في الحياة الذي يعيشه البطلان عندما سأل كلٌّ منهما الآخر: "هل تخاف العتمة؟" "الأموات لا يخشون شيئًا". وذلك نتيجة اليأس من حياة تُحطِّم الآمال، وتثير القلق والخوف على مستقبل لم يعد إنسان اليوم يرى فيه سوى الحرب التي قد تهيمن عليه، الأمر الذي تبيّن من خلال المشهديّات المتخيّلة للمستقبل. هكذا يشعر المتلقّي أنّه أمام عالمين: عالم الأموات وعالم الأحياء. عالمان في المكان نفسه تربط بينهما شعرة غير مرئيّة تسهم في البناء العامّ للسّيناريو، وتضيف عمقًا ودلالة خاصّة إلى العمل.  فمسرحيّة "ثلّاجة الموتى" طرحت مشكلة ماهيّة الإنسان، إذ إنّ الحياة ليست سوى رحلة قصيرة من الرّحم إلى القبر. ولعلّ انتهاء الفصل بمشهد الموت يُبرز التّشاؤم الذي يُعتبر أبرز وجه للعبث في هذا النّوع من المسرحيّات، ولكنّه تجلّى في صورة فنّيّة جديدة، إذ اعتمد الكاتب فنّيّة التّوالي، مع أنّه توالٍ خطر حيث بين العبارة والعبارة مهواة أو سلّم يهبط فجأة من سماء ما، هبطة تلو هبطة. لكنّ نافذة بعد نافذة تعبر الأحوال، تعبر مفترقات، كما في قاعدة متعدّدة المرايا، فيها العبارات المتشابهة-المتضادّة، تأخذنا في أرجوحة بين الوعي واللّاوعي، نسافر من المعقول إلى اللّامعقول. وكما يقوم المونتاج بالتّوليف في عمليّة الرّبط بين لقطة سينمائيّة وأخرى، وتتولّد عن ذلك فكرة معيّنة، يسعى المخرج إلى إيصالها، عمد علي الشّوابكة إلى ذلك التّوليف بين المشاهد بغية توليد فكرة متناسقة مع ما سبقها ومتّسقة مع ما بعدَها، ما يظهر مقدرته العالية على بناء اللّقطات وتوليفها. كما تكمن قيمة هذه المسرحيّة في أنّها تؤسّس لوعي جماليّ جديد يكون قادرًا على تحريض الوعي العامّ ودفعه إلى تجديد أدواته وأساليبه، إذ تعتمد على مبدأ عدم التّوقّع. لذلك أتت صادمة للذّوق النّمطيّ، وللقارئ الذي يستهويه المسرح التّقليديّ.  فبين الموت والحياة تفتح "ثلّاجة الموتى" نافذة يتأمّل الإنسان من خلالها في المستقبل وتفاهة هذه الحياة الفانية، ويطلّ عليه التّاريخ ماردًا عملاقًا يحمل بَرميل قُمامة يجمع فيه مدمّري النّفس والجسد ليرميَهم في "مزبلة التّاريخ"، لعلّهم يكونون درسًا يمحو أمّيّة العقول المتعفّنة التي تسيطر عليها الأنا الفرديّة القاتلة. فهل من متّعظ؟

وعلي الشّوابكة عمل على شدّ فِقر هذا العمود في مسرحيّة "ثلّاجة الموتى"، فنجده يضع المتلقّي في قلب التّجربة المسرحيّة، ويلقي عليه عبئَها: فهل يودّ أن يتغيّر شيء في نفسه، في حياته، في مجتمعه؟ إذا لم يكن يريد فهو ليس بحاجة إلى المسرح، من حيث هو امتحان قاس، منظار مقرّب، أضواء كاشفة، مكان للمواجهة. من ناحية أخرى، قد يودّ أن يكون المسرح هذا كلّه. في هذه الحالة لن يصبح بحاجة إلى المسرح فقط، لكنّه بحاجة إلى كلّ شيء يستخرجه منه، إنّه بحاجة ملحّة إلى الأثر الذي يخدش.

بعد الحربين العالميّتين الأولى والثّانية، ازداد إدراك الإنسان بحتميّة التّغيير، بحيث لم يعد الواقع شيئًا ثابتًا ملموسًا، بل أصبح عبارة عن شكّ؛ وهي النّظرة التي سادت فيما بعد العصر الحديث واقترنت به، حيث بدأ أرباب المسرح يشعرون بأنّ الحقيقة تتغيّر. وفي هذا الصّدد يقول أوجين يونسكو (Eugène Ionesco) عن نفسه: "أعتقد أنّ الوقت لم يحن بعد ما إذا كنّا قد أتينا بشيء جديد أو لا".

فبعد الكوارث التي خلّفتها الحرب العالميّة الثّانية في العالم، ولا سيّما في أوروبا، تولّد داخل الإنسان شعور بالإحباط والقلق وعبثيّة الحياة، فأدرك العديد من الكتّاب أنّه لا توجد حقيقة ثابتة، وكلّ شيء متغيّر ونسبيّ. وبعد التّغيير الذي عرفه العالم الأوروبيّ، كان حتمًا على الفنّ أن يفقد شكله. وقد مثّل هذا الاتّجاه روّاد مسرح العبث، وعلى رأسهم: يونسكو وأداموف (Adamov) وبيكيت (Beckett) وغيرهم... والجدير بالذّكر أنّ تيّار العبث الذي نشأ في أوروبا في أوائل خمسينيّات القرن الماضي، جعل المرء يفكّر في عبثيّة هذه الحياة، وسَعْي الإنسان إلى الجاه والسّيطرة والسّلطة، حتّى أدّى به الأمر إلى قتل أخيه من أجل مجد زائل، فينتهي عند عتبة الموت.

وإذا كان ألبير كامو (Albert Camus) أوّل مَن استخدم كلمتَي "العَبَث" و"اللّامعقول" في مقالته: "أسطورة سيزيف" لوصف حالة الإنسان والتّعبير عن فراغه الوجوديّ، فالشّوابكة في مسرحيّته أعلن من خلال شخصيّاته التّمرّد على الحياة؛ فهل هي عبثيّة الإرادة الإنسانيّة؟ أو عبثيّة الوجود في عالم فقد الإنسان فيه ثقتَه واتّجاهَه؟

في الواقع، إنّ الحركة والنّصّ غالبًا ما يكونان متلازمين، إذ مهما كانت مخيّلة القارئ واسعة، فإنّها لا تستطيع أن تعطيه الانفعال الخاصّ الذي يقدّمه عرض المسرحيّة على الخشبة.

من هنا، تعاملت مع هذه المسرحيّة كنصّ، محاولة رصد التّقنيّات التي وظّفها الكاتب في هذا الإنتاج الإبداعيّ، ونحن نعلم أنّ المسرح هو العالم الذي يجمع عالمين منفصلين: عالم الواقع أي الجمهور، وعالم الخيال أي الخشبة عندما تدبّ فيها الحياة، وذلك بوجود نصّ وممثّل ومكان يجري فيه الحدث. والمكان في هذه المسرحيّة هو ثلّاجة الموتى. فهل أكثر من هذا العنوان إيحاءً وإثارة لمشاعر النّفور؟ لقد أثار فينا الشّوابكة منذ العنوان هذه المشاعر، ولكنّها علامة فارقة في الإبداع العالميّ، ألم تحقّق قصيدة "الجيفة" لشارل بودلير (Charles Baudelaire) نجاحًا عالميًّا وهي تصوّر البشاعة؟

والجدير بالذّكر أنّ علي الشّوابكة في مسرحيّته لا يوظّف فلسفته وأدواته لتؤثّث تفاصيل المسرحيّة وأحداثها فحسب، وإنّما يحاول أن يشرك القارئ في هذا العمل من خلال رسمه الإطار العامّ لهذه المسرحيّة: "غرفة تتوسّطها ثلّاجة الموتى، في زاوية الغرفة يظهر برميل قُمامة". المسرحيّة من فصل واحد، تحرّك أحداثَها شخصيّتان أساسيّتان: امرأة، وهي عاملة تنظيف في قسم ثلّاجة الموتى، ورجل، وهو جامع خردوات، إضافة إلى الطّبيب المناوب. واللّافت أنّه لا زمان في هذه المسرحيّة، ولا أسماء تحدّد الشّخصيّات. بالتّالي، بإمكاننا تمييز متكلّم عن آخر من خلال صفاته والحركات التي يؤدّيها. وما لفتنا في الواقع في مستهلّ المسرحيّة حوار عاملة التّنظيف مع الموتى. هذا الحوار الذي يدلّ على عبثيّة الحياة وخلوِّها من منطق الجدوى والماهيّة من جهة، ويسلّط الضّوء على فئات اجتماعيّة مختلفة متواجدة في ثلّاجات الموتى. في الدّرج الأوّل: عامل إسمنت، في الدّرج الثّاني سيّدة أعمال تخاطبها عاملة التّنظيف بسخرية قائلة: "نسيتُ أنّ أنفَك تعوّد العطور الباريسيّة التي تركتِها لأولادك الذين لم يتّفقوا على موعد الجنازة".

وتردف قائلة: "آسفة سيّدتي لم أكن أعلم أنّك حسّاسة لهذه الدّرجة، حقًّا إنّني غبيّة، لقد كانت عطسة رجل لا يعرف النّظافة".
"إنّ المرأة تعطس هكذا... تعطس بنعومة وبخاصّة إذا كانت من سيّدات الأعمال ومن الطّبقة المخمليّة".

أحببتُ أن أتوقّف عند هذا الحوار الذي أجرته عاملة التّنظيف مع المرأة الميتة الموجودة في الدّرج الثّاني، لأنّه لا يُظهر تمرّد الكاتب على النّمط التّقليديّ للمسرح فحسب، بل يتعدّى ذلك إلى اللّغة نفسها إذ تبدو مصطلحاتُه مكتنزة بالحمولات الدّلاليّة، فتمكّن بالتّالي من تجسيد الواقع من خلال حوار يقوم بين حيّ وميت، ما أظهر تفاهة الحياة الدّنيا، إذ يخرج الإنسان بخُفَّي حُنين: سيّدة الأعمال الثّريّة المُعتادة على العطور الباريسيّة تُعطّر بصابون غسل الموتى، والسّياسيّون والمقاولون وغيرُهم ممّن يجنون الثّروات على حساب أرواح بريئة دأبهم العمل على تحقيق غاياتهم الشّخصيّة على حساب المصلحة العامّة.

لقد حاول الشّوابكة في مسرحيّته أن يبني عالمًا موازيًا لعالم الواقع. فنستشفّ بالتّالي أسلوب الصّدمة في خطابه المسرحيّ السّاخر من الطّبقة البرجوازيّة.

كذلك يظهر وعي الكاتب للأسلوب اللّغويّ الموظّف في الحوار بين المرأة عاملة التّنظيف والرّجل عامل الخردوات، ويبرّر عدم التّفاوت في مستوى الخطاب بينهما بالجملة التّالية التي وردت على لسان المرأة: "من أين جئتَ بكلّ هذا التّهذيب وأنتَ من الهامش البعيد؟" يجيب الرّجل: "من الأفلام".

وعليه، من خلال الحوار نلاحظ كيف تتنامى الأحداث بشكل تصاعديّ. وقد تجلّت قدرة الكاتب على إعطاء كلّ شخصيّة الدّرجة نفسها من القابليّة للتّصديق.
ما يبيّن أنّ الشّوابكة يقدّم صورة تنتمي إلى خشبة المسرح، وعلاقات تنتمي إليها. ويستمرّ التّعرّف على الموتى:

في الدّرج الثّالث: شابّ انتحر من أجل حبيبته، وفي درج آخر: المقاول الكبير الذي شقّ الطّريق الطّويلة التي لم ينتهِ العمل بها، وابتلعت النّاس، فيخاطبه عامل الخردوات قائلًا: "إلى مزبلة التّاريخ".

في الواقع، لم يتوانَ الشّوابكة أثناء كتابة هذا المشهد من توظيف مؤثّرات صوتيّة، ما يساعد المتلقّي على تخيّل سير الأحداث على خشبة المسرح. فنبرة الصّوت، والتّصرّفات، وحركات الأجسام، وتعابير الوجه، وتشكيل أساريره، كلّها من الوسائل التي تعكس الشّخصيّة الإنسانيّة في طبائعها وحبّها وانفعالها.

كما تتسرّب رائحة الموت إلى المتلقّي حين يقرأ:

-"إنّ صابون الموتى طيّب الرّائحة".
-"يداك مفعمتان بالموت".
-"مناشف الموتى".
-"إنّ جسدك مفعم بالموت".

هكذا، يشارك القارئ الكاتب في عمليّة كتابة النّصّ، فيوظّف كلّ حواسّه أثناء قراءة المشهد، ما يخلق نوعًا من التّوحّد بين المتكلّم والمتلقّي. ويسمع هذا الأخير الموسيقى الرّاقصة، ورنّة الهاتف، وصوت الضّحك، ويشمّ رائحة المزبلة.

وتتحقّق الصّدمة حين تقول المرأة ساخرة بعد أن طلب الرّجل يدها للزّواج: "ستجدُ ضالّتك هناك... في مزبلة التّاريخ أوسمة من الذّهب الخالص غالية الثّمن لقادة الحروب وساسة الموت وسماسرة السّلاح والجوع".

هكذا، نلاحظ أنّ الكاتب يحتجب خلف شخصيّاته ليكشف عن أوجه الخلل النّاجم عن الأنساق الاجتماعيّة السّائدة، فتكشف لغته عن أنّ البنى اللّغويّة هي انعكاس لبنى المجتمع وقيمه. والشّوابكة يعيش هذين الواقعين: السّياسيّ والاجتماعيّ، فإذا بمظاهر العبث تتجلّى واضحة في المسرحيّة. ففضلًا عن القلق الذي يسيطر على الشّخصيّات يبرز عامل الوحدة الذي نستشفّه من خلال قول المرأة عن الأموات: "إنّهم أهلي"، والشّعور بالموت في الحياة الذي يعيشه البطلان عندما سأل كلٌّ منهما الآخر: "هل تخاف العتمة؟" "الأموات لا يخشون شيئًا". وذلك نتيجة اليأس من حياة تُحطِّم الآمال، وتثير القلق والخوف على مستقبل لم يعد إنسان اليوم يرى فيه سوى الحرب التي قد تهيمن عليه، الأمر الذي تبيّن من خلال المشهديّات المتخيّلة للمستقبل.

هكذا يشعر المتلقّي أنّه أمام عالمين: عالم الأموات وعالم الأحياء. عالمان في المكان نفسه تربط بينهما شعرة غير مرئيّة تسهم في البناء العامّ للسّيناريو، وتضيف عمقًا ودلالة خاصّة إلى العمل.

فمسرحيّة "ثلّاجة الموتى" طرحت مشكلة ماهيّة الإنسان، إذ إنّ الحياة ليست سوى رحلة قصيرة من الرّحم إلى القبر. ولعلّ انتهاء الفصل بمشهد الموت يُبرز التّشاؤم الذي يُعتبر أبرز وجه للعبث في هذا النّوع من المسرحيّات، ولكنّه تجلّى في صورة فنّيّة جديدة، إذ اعتمد الكاتب فنّيّة التّوالي، مع أنّه توالٍ خطر حيث بين العبارة والعبارة مهواة أو سلّم يهبط فجأة من سماء ما، هبطة تلو هبطة. لكنّ نافذة بعد نافذة تعبر الأحوال، تعبر مفترقات، كما في قاعدة متعدّدة المرايا، فيها العبارات المتشابهة-المتضادّة، تأخذنا في أرجوحة بين الوعي واللّاوعي، نسافر من المعقول إلى اللّامعقول.

وكما يقوم المونتاج بالتّوليف في عمليّة الرّبط بين لقطة سينمائيّة وأخرى، وتتولّد عن ذلك فكرة معيّنة، يسعى المخرج إلى إيصالها، عمد علي الشّوابكة إلى ذلك التّوليف بين المشاهد بغية توليد فكرة متناسقة مع ما سبقها ومتّسقة مع ما بعدَها، ما يظهر مقدرته العالية على بناء اللّقطات وتوليفها. كما تكمن قيمة هذه المسرحيّة في أنّها تؤسّس لوعي جماليّ جديد يكون قادرًا على تحريض الوعي العامّ ودفعه إلى تجديد أدواته وأساليبه، إذ تعتمد على مبدأ عدم التّوقّع. لذلك أتت صادمة للذّوق النّمطيّ، وللقارئ الذي يستهويه المسرح التّقليديّ.

فبين الموت والحياة تفتح "ثلّاجة الموتى" نافذة يتأمّل الإنسان من خلالها في المستقبل وتفاهة هذه الحياة الفانية، ويطلّ عليه التّاريخ ماردًا عملاقًا يحمل بَرميل قُمامة يجمع فيه مدمّري النّفس والجسد ليرميَهم في "مزبلة التّاريخ"، لعلّهم يكونون درسًا يمحو أمّيّة العقول المتعفّنة التي تسيطر عليها الأنا الفرديّة القاتلة. فهل من متّعظ؟
تعليقات