بقلم د. دورين نصر
سفر من المعقول إلى اللّامعقول
لعلّ هذه الأسئلة أجاب عنها بيتر بروك في كتابه الشّهير "النّقطة المتحوّلة"، ودفعتني للبحث في العمل الذي قدّمه لنا د. علي الشّوابكة، لا سيّما أنّ الفنّ المسرحيّ من أكثر فنون الأدب متعة واستعصاء في آن معًا على كاتبه، ومن أشدِّها حاجة إلى مهارة فنّيّة خاصّة تستطيع أن تؤالف بين عناصر هذا الفنّ المتشعّبة من نصّ وممثّل ومخرج وجمهور وسينوغرافيّ، وأن تتضافر كلّها من غير تنافر حتّى يصل الكاتب إلى عمل فنّيّ متكامل.
وعلي الشّوابكة عمل على شدّ فِقر هذا العمود في مسرحيّة "ثلّاجة الموتى"، فنجده يضع المتلقّي في قلب التّجربة المسرحيّة، ويلقي عليه عبئَها: فهل يودّ أن يتغيّر شيء في نفسه، في حياته، في مجتمعه؟ إذا لم يكن يريد فهو ليس بحاجة إلى المسرح، من حيث هو امتحان قاس، منظار مقرّب، أضواء كاشفة، مكان للمواجهة. من ناحية أخرى، قد يودّ أن يكون المسرح هذا كلّه. في هذه الحالة لن يصبح بحاجة إلى المسرح فقط، لكنّه بحاجة إلى كلّ شيء يستخرجه منه، إنّه بحاجة ملحّة إلى الأثر الذي يخدش.
فبعد الكوارث التي خلّفتها الحرب العالميّة الثّانية في العالم، ولا سيّما في أوروبا، تولّد داخل الإنسان شعور بالإحباط والقلق وعبثيّة الحياة، فأدرك العديد من الكتّاب أنّه لا توجد حقيقة ثابتة، وكلّ شيء متغيّر ونسبيّ. وبعد التّغيير الذي عرفه العالم الأوروبيّ، كان حتمًا على الفنّ أن يفقد شكله. وقد مثّل هذا الاتّجاه روّاد مسرح العبث، وعلى رأسهم: يونسكو وأداموف (Adamov) وبيكيت (Beckett) وغيرهم... والجدير بالذّكر أنّ تيّار العبث الذي نشأ في أوروبا في أوائل خمسينيّات القرن الماضي، جعل المرء يفكّر في عبثيّة هذه الحياة، وسَعْي الإنسان إلى الجاه والسّيطرة والسّلطة، حتّى أدّى به الأمر إلى قتل أخيه من أجل مجد زائل، فينتهي عند عتبة الموت.
في الواقع، إنّ الحركة والنّصّ غالبًا ما يكونان متلازمين، إذ مهما كانت مخيّلة القارئ واسعة، فإنّها لا تستطيع أن تعطيه الانفعال الخاصّ الذي يقدّمه عرض المسرحيّة على الخشبة.
والجدير بالذّكر أنّ علي الشّوابكة في مسرحيّته لا يوظّف فلسفته وأدواته لتؤثّث تفاصيل المسرحيّة وأحداثها فحسب، وإنّما يحاول أن يشرك القارئ في هذا العمل من خلال رسمه الإطار العامّ لهذه المسرحيّة: "غرفة تتوسّطها ثلّاجة الموتى، في زاوية الغرفة يظهر برميل قُمامة". المسرحيّة من فصل واحد، تحرّك أحداثَها شخصيّتان أساسيّتان: امرأة، وهي عاملة تنظيف في قسم ثلّاجة الموتى، ورجل، وهو جامع خردوات، إضافة إلى الطّبيب المناوب. واللّافت أنّه لا زمان في هذه المسرحيّة، ولا أسماء تحدّد الشّخصيّات. بالتّالي، بإمكاننا تمييز متكلّم عن آخر من خلال صفاته والحركات التي يؤدّيها. وما لفتنا في الواقع في مستهلّ المسرحيّة حوار عاملة التّنظيف مع الموتى. هذا الحوار الذي يدلّ على عبثيّة الحياة وخلوِّها من منطق الجدوى والماهيّة من جهة، ويسلّط الضّوء على فئات اجتماعيّة مختلفة متواجدة في ثلّاجات الموتى. في الدّرج الأوّل: عامل إسمنت، في الدّرج الثّاني سيّدة أعمال تخاطبها عاملة التّنظيف بسخرية قائلة: "نسيتُ أنّ أنفَك تعوّد العطور الباريسيّة التي تركتِها لأولادك الذين لم يتّفقوا على موعد الجنازة".
أحببتُ أن أتوقّف عند هذا الحوار الذي أجرته عاملة التّنظيف مع المرأة الميتة الموجودة في الدّرج الثّاني، لأنّه لا يُظهر تمرّد الكاتب على النّمط التّقليديّ للمسرح فحسب، بل يتعدّى ذلك إلى اللّغة نفسها إذ تبدو مصطلحاتُه مكتنزة بالحمولات الدّلاليّة، فتمكّن بالتّالي من تجسيد الواقع من خلال حوار يقوم بين حيّ وميت، ما أظهر تفاهة الحياة الدّنيا، إذ يخرج الإنسان بخُفَّي حُنين: سيّدة الأعمال الثّريّة المُعتادة على العطور الباريسيّة تُعطّر بصابون غسل الموتى، والسّياسيّون والمقاولون وغيرُهم ممّن يجنون الثّروات على حساب أرواح بريئة دأبهم العمل على تحقيق غاياتهم الشّخصيّة على حساب المصلحة العامّة.
كذلك يظهر وعي الكاتب للأسلوب اللّغويّ الموظّف في الحوار بين المرأة عاملة التّنظيف والرّجل عامل الخردوات، ويبرّر عدم التّفاوت في مستوى الخطاب بينهما بالجملة التّالية التي وردت على لسان المرأة: "من أين جئتَ بكلّ هذا التّهذيب وأنتَ من الهامش البعيد؟" يجيب الرّجل: "من الأفلام".
في الدّرج الثّالث: شابّ انتحر من أجل حبيبته، وفي درج آخر: المقاول الكبير الذي شقّ الطّريق الطّويلة التي لم ينتهِ العمل بها، وابتلعت النّاس، فيخاطبه عامل الخردوات قائلًا: "إلى مزبلة التّاريخ".
في الواقع، لم يتوانَ الشّوابكة أثناء كتابة هذا المشهد من توظيف مؤثّرات صوتيّة، ما يساعد المتلقّي على تخيّل سير الأحداث على خشبة المسرح. فنبرة الصّوت، والتّصرّفات، وحركات الأجسام، وتعابير الوجه، وتشكيل أساريره، كلّها من الوسائل التي تعكس الشّخصيّة الإنسانيّة في طبائعها وحبّها وانفعالها.
-"إنّ صابون الموتى طيّب الرّائحة".
-"يداك مفعمتان بالموت".
-"مناشف الموتى".
-"إنّ جسدك مفعم بالموت".
وتتحقّق الصّدمة حين تقول المرأة ساخرة بعد أن طلب الرّجل يدها للزّواج: "ستجدُ ضالّتك هناك... في مزبلة التّاريخ أوسمة من الذّهب الخالص غالية الثّمن لقادة الحروب وساسة الموت وسماسرة السّلاح والجوع".
هكذا يشعر المتلقّي أنّه أمام عالمين: عالم الأموات وعالم الأحياء. عالمان في المكان نفسه تربط بينهما شعرة غير مرئيّة تسهم في البناء العامّ للسّيناريو، وتضيف عمقًا ودلالة خاصّة إلى العمل.
وكما يقوم المونتاج بالتّوليف في عمليّة الرّبط بين لقطة سينمائيّة وأخرى، وتتولّد عن ذلك فكرة معيّنة، يسعى المخرج إلى إيصالها، عمد علي الشّوابكة إلى ذلك التّوليف بين المشاهد بغية توليد فكرة متناسقة مع ما سبقها ومتّسقة مع ما بعدَها، ما يظهر مقدرته العالية على بناء اللّقطات وتوليفها. كما تكمن قيمة هذه المسرحيّة في أنّها تؤسّس لوعي جماليّ جديد يكون قادرًا على تحريض الوعي العامّ ودفعه إلى تجديد أدواته وأساليبه، إذ تعتمد على مبدأ عدم التّوقّع. لذلك أتت صادمة للذّوق النّمطيّ، وللقارئ الذي يستهويه المسرح التّقليديّ.
أكتب تعليقك هتا