تبدو الأعوام القليلة الماضية بمثابة نقطة التحول لمشاعر مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي تجاه الإنترنت. كان يُنظر إليها ذات يوم على أنها تقنية تحررية من شأنها أن تبشر بعصر من الإبداع والاتصالات الجديدة في جميع أنحاء العالم، وقد قام الكثيرون - بدءًا من مستخدمي تويتر العاديين إلى منشئي المحتوى المحترفين - بتشغيل هذه التكنولوجيا.
يمكن التعرف على التحول في الحالة المزاجية من خلال بعض البرامج مثل برنامج الواقع البائس الشهير "الدائرة" The Circle على Netflix، والذي يتنافس فيه المتسابقون بشكل ساخر على المال باستخدام شخصيات مزيفة غالباً على الإنترنت. أحد الأفلام الوثائقية الأكثر شعبية على موقع البث المباشر في العام الماضي كان "المعضلة الاجتماعية" The Social Dilemma، الذي استحوذ على انتباه المشاهدين بتفسيراته لأخطاء الخصوصية على Facebook. وحتى بعض الروايات الأكثر إثارة للجدل هذا العام تدور حول الجوانب المظلمة للإنترنت، مثل رواية "الحسابات المزيفة" Fake Accounts للكاتبة "لورين أويلر" Loren Oylerورواية "لا أحد يتحدث عن هذا"Nobody's Talking About This للكاتبة "باتريشيا لوكوود"Patricia Lockwood.
إن الحل لأزمة استخدامات الإنترنت الحالية لا يمكن أن يأتي على المستوى الفردي بعد الآن، مثلما أن استقالة شخص واحد من وظيفته لا يمكن أن تحل ظروف العمل السيئة في الرأسمالية. إذا أردنا أي أمل في جعل الإنترنت أقل إرهاقاً وأقل إزعاجاً، وأكثر إرضاءً، فإن منشئي المحتوى والعاملين في اقتصاد الأعمال المؤقتة، وحتى مستخدمي الإنترنت العاديين بحاجة إلى الضغط من أجل حل منهجي.
الإنترنت يفسد الأدمغة
لقد نشأت صناعة منزلية حقيقية للاستفادة من معرفة الناس بأن الإنترنت مضر لهم. إن شبكة الإنترنت مليئة بالنصائح حول كيفية أخذ استراحة من وسائل التواصل الاجتماعي، وقد تم تأليف كتب المساعدة الذاتية لتشجيع الناس على الانفصال عن وسائل التواصل الاجتماعي. هناك العديد من محادثات TED الشهيرة من مهندسي الإنترنت السابقين والمديرين التنفيذيين الذين يخبرون الناس أن الإنترنت سيئ بالنسبة لهم ويجب عليهم ترك وسائل التواصل الاجتماعي وراءهم. لقد ظهرت تراجعات للأثرياء تمنع الهواتف وأجهزة الحاسوب، وربما الأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن الأشخاص الذين يبنون هذه التكنولوجيا يرسلون أطفالهم إلى المدارس حيث يتم حظر التكنولوجيا - وهو اعتراف ضمني بقدرتها على إيذاء عقول الناس.
يتم التذكير باستمرار بأن الإنترنت سيء بالنسبة للجميع، ومع ذلك فإن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي يرتفع أكثر من أي وقت مضى، حيث يبلغ متوسطه 145 دقيقة للشخص الواحد يومياً على مستوى العالم. إذن نحن عالقون في دائرة حيث نعلم أن هناك شيئاً سيئاً ونريد التوقف، ومع ذلك، على ما يبدو إننا لا نستطيع ذلك.
عمال بلا أجر
لقد تمت إعادة صياغة مجتمعنا بأكمله حول الإنترنت، مثلما كان يتمحور حول المصنع خلال الثورة الصناعية. إذا حدث انقطاع في Amazon Web Services يتوقف جزء كبير من مجتمعنا عن العمل. بدون الإنترنت لن نتمكن من العثور على وظائف، أو حتى ـ في هذه المرحلةـ لم نتمكن من العثور على أصدقاء.
لقد تم تمكين "اقتصاد الأعمال المؤقتة" The Concert Economyــ العمل الاستغلالي الذي يتقاضى أجوراً زهيدة في كثير من الأحيان من قبل سائقي أوبر Uber والمتسوقين على موقع إنستاكارت Instacartــ عن طريق الإنترنت، والآن يشارك أكثر من ربع العمال في الولايات المتحدة في هذا الاقتصاد بشكل ما. خلال الوباء، لم يتمكن موظفو المكاتب من أداء واجباتهم الوظيفية المطلوبة إلا من خلال الإنترنت، وتخلى طلاب الجامعات عن الرسوم الدراسية الكاملة للحصول على امتياز التحديق في Zoom لساعات كل يوم.
وكما كتبت الباحثة الأسترالية في مجال الثقافة والإعلام "ماكينزي وارك" Mackenzie Wark في كتابها "مات رأس المال: هل هذا شيء أسوأ؟" Capital Is Dead: Is This Anything Worse? فإن الإنترنت يستخدم عملنا دون أن ندرك ذلك بالفعل. وعلى عكس عصر البث الإعلامي حيث كان على مالكي شبكات التلفزيون واستوديوهات الأفلام إنشاء محتوى لبيعه لنا على الأقل، فإننا الآن ننشئ كل المحتوى لبعضنا البعض، دون أن ندفع في الغالب.
نحن ننتج الصور، والموضوعات، والتغريدات، والمشاركات التي تبقينا مرتبطين بالإنترنت، ثم يتم تحقيق الدخل من هذا المحتوى في شكل إعلانات - يساعد المستخدمون في تحقيق الإيرادات، ولكنهم لا يحصلون عادةً على فلس واحد منها.
في بعض الأوساط من المجتمع، حلت هذه العملة المؤثرة محل أجور التصنيع، خاصة بالنسبة للمهنيين الذين اعتادوا على كسب عيش منظم من المحتوى المدفوع والذين يقومون الآن بنشر عناوينهم الثانوية على نطاق واسع على أمل تأمين مصدر رزق مناسب من الاسم والاعتراف.
وادي المراقبة
كان الصحفي الأمريكي "لويس روسيتو" Louis Rossetto- مؤسس "مجلة سلكية" Wired Magazine، أكبر صوت للتبشير بالإنترنت الجديد المخصخص في التسعينيات - من محبي الأديبة الأمريكية "آين راند" Ayn Rand التي اعتقدت أن الإنترنت سيأتي ليحل محل الحاجة إلى الحكومة. نحن نعيش اليوم مثل هذه الرؤية التحررية للإنترنت، حيث توجد الشركات إلى حد كبير بصورة غير منظمة، ولا تخضع للضرائب، وقادرة على فعل ما تريد دون قلق من تدخل الحكومة.
إذن ماذا نفعل؟
على الرغم من أن بيان بتاك يعد أمراً مهماً، ولكنه ليس استراتيجية لتغيير الويب، إلا أنه يمكن أن يكون نقطة بداية. ربما يمكن لمستخدمي الإنترنت تنظيم أنفسهم للتوقف عن التخلي عن العقول مجاناً حتى تتمكن قلة مختارة من الاستفادة منها. وكما سعى منظمو العمل إلى جعل الصناعات الأخرى أقل استغلالاً، فربما يحتاج المستخدمين إلى حركة لفعل الشيء نفسه مع الإنترنت.
وكانت شبكة "وكالة مشاريع الأبحاث المتقدمة" (ARPANET) أول شبكة واسعة النطاق لتبديل الحزم مع تحكم موزع وواحدة من أولى شبكات الحاسوب التي نفذت مجموعة بروتوكولات TCP/IP. أصبحت كلتا التقنيتين الأساس التقني للإنترنت. تم إنشاء ARPANET من قبل وكالة مشاريع الأبحاث المتقدمة (DARPA الآن) التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية.
المحفزات الرقمية
شركات مثل Google، وFacebook، وTwitter، وApple، تتنافس على جذب انتباهنا، وهي تفعل ذلك بذكاء، فهي تعرف الأزرار النفسية التي يجب الضغط عليها لإجبارنا على العودة للحصول على المزيد. أصبح من الشائع الآن أن يحصل الأطفال في الغرب على هاتف ذكي في سن العاشرة. وهو جهاز إلهاء يحملونه في جيوبهم طوال الوقت.
إذا كان صحيحاً أن التشتيت الرقمي المستمر يغير وظائفنا المعرفية نحو الأسوأ - مما يجعل الكثير منا أكثر تشتتاً، وأكثر عرضة لهفوات في الذاكرة، وأكثر قلقاً - فهذا يعني أننا نعيش تحولاً عميقاً في الإدراك البشري. أم أننا نبالغ في رد فعلنا، مثل الأشخاص في الماضي الذين أصيبوا بالذعر بشأن التقنيات الجديدة كالمطبعة أو الراديو؟
يقول "ريتشارد ديفيدسون" Richard Davidson عالم الأعصاب في "جامعة ويسكونسن" University of Wisconsin ومؤسس ومدير مركز العقول الصحية Center for Healthy Minds "نحن جميعاً بيادق في تجربة كبرى يتم التلاعب بها من خلال المحفزات الرقمية التي لم يعطها أحد موافقة صريحة". تمتلك شركات التكنولوجيا أدوات قوية ومنتشرة للتأثير على نفسية المستخدمين واستغلالها. يتم جذب انتباه الناس بواسطة الأجهزة بدلاً من تنظيمه طوعاً. يصبح البشر مثل بحار بلا دفة في المحيط - تدفعهم وتجذبهم المحفزات الرقمية التي يتعرضون لها وليس التوجيه المتعمد لعقولهم. وهذا يؤكد الحاجة الملحة لتدريب العقول على التأمل حتى لا يضطر الناس إلى التحقق من هواتفهم ثمانين مرة في اليوم.
ولكن ما يقلق هو أن المستخدمين نادراً ما يكونون على علم تام بإمكانية استخدام بياناتهم بهذه الطريقة. علاوة على ذلك، كثيراً ما لا تحظى الشركات التي تعمل على تطوير المجموعة المتنوعة المتزايدة من تكنولوجيات "الصحة والرفاهية" بالاعتبار الكافي للمخاطر الناجمة عن التدخل. على سبيل المثال قد تقوم الشركات بدفع المستخدم لتغيير أنماط النوم أو الحالة المزاجية أو التفضيلات الغذائية والتسبب في ضرر غير مقصود.
هل دمرت الهواتف الذكية جيلًا بالفعل؟
فيما يتعلق بالأدلة المباشرة ـ إظهار أن الهواتف المحمولة ووسائل التواصل الاجتماعي تعيق التواصل البشري شخصياً ـ فهي محدودة. لكن إذا فكرنا في الأمر قليلاً: كيف يتواصل الناس مع بعضهم البعض؟ يفعلون ذلك من خلال المهارات الاجتماعية. وكيف تبني مهاراتك الاجتماعية؟ هناك طريقة واحدة فقط نعرفها - من خلال التفاعل وجهاً لوجه مع أقران آخرين في عمرك. عندما يكون لديك مجتمع تحل فيه أشياء أخرى محل التفاعلات الاجتماعية وجهاً لوجه، فمن المعقول افتراض أن هذه الأشياء ستؤثر على تطوير المهارات الاجتماعية. ويبدو أن هذا هو ما نراه الآن. ويتعين علينا أن نجد وسيلة لتحقيق التوازن بين أخطار التكنولوجيا الرقمية الدائمة وفوائدها. الأمر الواضح: إن تأثير الوسائط الرقمية يعتمد جزئياً على كيفية استخدامنا لها. أي أن تأثير الوسائط الرقمية على الأطفال الصغار يعتمد على ما يفعله الأطفال وكيفية تنظيم هذه الأنشطة من قبل البالغين الموجودين - أو غير الموجودين - في الغرفة.
على سبيل المثال، قد نقارن الدردشة الحقيقية مع أحد أجداد الطفل مقابل مشاهدة برنامج تلفزيوني تعليمي، ولعب لعبة فيديو مقابل استخدام تطبيق الرسم بالأصابع. من المرجح أن يستفيد الأطفال الصغار من الوسائط الرقمية عندما يكون المحتوى جذاباً وتعليمياً وذا صلة بحياتهم الخاصة؛ عندما يستخدمونها مع الآخرين - عندما يساعد الآباء الأطفال على فهم ما يرونه على الشاشة وربطه بما يختبرونه خارج الشاشة. وعندما تتم موازنة أنشطة الوسائط الرقمية مع الأنشطة خارج الشاشة مثل اللعب في الخارج، واللعب بالألعاب، وقراءة الكتب مع مقدمي الرعاية، والحصول على القدر الموصى به من النوم.
يجب الانتباه للتأثير المباشر للتكنولوجيا الرقمية على التنظيم العاطفي، والتوتر، نتيجة التعرض المفرط للمعلومات، ودورات المكافأة السريعة، والمشاركة المتزامنة في مهام متعددة. وهذه بالتأكيد أسباب تدعو للقلق. ومع ذلك يمكن للتكنولوجيا أن تقدم لنا شيئاً لا يصدق. فرصة لتعزيز معرفتنا وإثراء حياتنا.
الذعر الأخلاقي
إحدى الطرق التي تشعر بها بالذعر الأخلاقي هي أنه يميل إلى التركيز على أطفالنا أو حياتنا الجنسية. لذلك عندما ترى شخصاً يقول إننا سنحظى بجيل ضائع، أو أن تقنية البلوتوث تقود الشباب إلى ممارسات سيئة بمعدلات غير مسبوقة، فهذه دائماً مؤشرات على الذعر الأخلاقي وليس القلق بشأن الأشياء الحقيقية.
الكاتب الأمريكي "نير إيال" Nir Eyal مؤلف كتاب "مدمن مخدرات: كيفية بناء منتجات تشكيل العادة" Hooked: How to Build Habit-Forming Productsيشبه استخدام التكنولوجيا بتدخين الحشيش. تسعون بالمائة من الأشخاص الذين يدخنون الحشيش لا يصبحون مدمنين. لكن النقطة المهمة هي أنك ستجد بعض الأشخاص الذين يسيئون استخدام المنتج؛ إذا كان جيداً وجذاباً بما فيه الكفاية، فلا بد أن تحدث تلك الإساءة. الحل هو أننا يجب أن نصلح الضرر الذي تسببه التكنولوجيا وليس التكنولوجيا نفسها. لذلك لا بد أن تبحث الشركات عن المدمنين وتساعدهم.
أكتب تعليقك هتا