شمشون حرب غزة!

أقسام الوصول السريع (مربع البحث)

توفيق أبو شومر - فلسطين قصصتُ على طالبات مدرسةٍ إعدادية طريقةَ صيامِنا عندما كنتُ في سنهنَّ، قلتُ: حلَّ شهر رمضان في أواخر خمسينيات القرن الماضي، في شهر إبريل، كان الجو قائظا على غير المعتاد، كنتُ أسيرُ ساعة لأصل المدرسةَ، اعتدتُ أن أسأل حاملي الساعات عن الوقت عدة مرات، مع العلم أن حاملي الساعات من المارين كانوا قِلَّة، لأن الساعات كانت غالية الثمن، ولم أكن أعرف سرَّ توقيت طبلة المسحراتي المضبوط وهو يطرق شباكنا الحديدي، مناديا أن استيقظوا، فهو نفسه لا يملك ساعةً، بل كان يوقظنا وفق حاسته الفطرية وتخمينه الصحيح!  كنتُ أشعرُ بالنشاط أستمدُّ طاقتي في المشي من وجبة السحور الشعبية البسيطة، وهي ليست وجبةً كاملة، بل هي كوبٌ صغير من منقوع قمر الدين، ومن بعض الملاعق الصغيرة من الدبس، وأكمل ملء فراغ معدتي بالخبز. وما إن أصل ساحة المدرسة حتى أشعر بالجوع والعطش، فأتوجه إلى حنفيات المدرسة الثلاثة الوحيدة في ساحة المدرسة أبلل شعري، وأغسل وجهي، حتى أخفف إحساسي بالعطش، حنفيات المياه الثلاثة هي الأكثر ازدحاما، لأننا كنا نتسابق بعد كل حصة نبلل ثيابنا بالماء، كثيرون كانوا يبتلعون جرعاتٍ من الماء، فنسمعهم يقسمون بأنهم لم يفعلوا ذلك، يفتحون أفواههم وكأن المياه ما زالت داخلها ليثبتوا براءتهم من الاتهام!  كانت رحلة العودة هي الأكثر قسوة، لأننا كنا نعود على مهلٍ، ولا نسأل حاملي الساعات عن الأوقات، كنتُ أمارسُ طقس التسكع بين الحقول المزروعة بنبات البرسيم في طريق عودتي اعتدتُ قطفَ نبات (السريس) أو الهندباء العاشقة لنبات البرسيم، كان أوراق الهندباء الخضراء رشوتي لوالدي ليكفَّ مؤقتا عن نقده القاسي لي، كان والدي يقضم السريس مع الطعام بشراهة! كان معتادا أن يوجه لي نقده الدائم، ليس لإهمالي في دراستي، ولكنه كان يعترض على أصدقائي، وعلى تأخري في العودة، واتساخ ملابسي، أو ثقبها من الأسيجة، على الرغم من أن كلَّ ملابسي معادٌ تفصيلُها من ملابس البالات المستعملة التي توزعها وكالة الأونروا على اللاجئين، وليست من القماش الجديد!  كنتُ عندما اًصل بيتنا المجاور لشاطئ البحر، أنزع ملابسي، وأرتدي لباسا داخليا مفصلا بإبرة والدتي من بقايا أكياس دقيق القمح البيضاء، أحمل سلة بوصٍ مُخرمةٍ أُكوِّمُ فيها زلفَ البحر المهشم على الشاطئ، (الزفزف) كان هذا الخليط الجيري البحري بديلا عن حصمة البناء، أجمعُ كومة منها تُباع لصانعي قوالب الإسمنت، كنتُ أمضي ساعاتٍ في جمع كومة صغيرة، يشتريها البناؤون بقرشٍ واحد، يكفي لشراء بعض حبيبات (الدروبس) وهي حلوى مكورة فيها طعم الورد والنعنع! أو قطعة صغيرة من النمورة.  كان لأختَيَّ الصغيرتين واجبٌ يوميٌ آخر، ملءُ جرار المياه الفخارية الثلاثة وزير المياه، وهي كل ما نملكه من الماء، كانتا تحملان الجرة فوق الرأس من مضخة المياه الوحيدة البعيدة، فما أن تفرغا من هذه المهمة حتى تنطلقا لجمع (الزفتة) وهي فتات وبقايا قطع القطران السوداء المجمدة على شاطئ البحر الرملي، وهي بقايا من محركات ديزل السفن البحرية، هذه القطرات كانت تستخدم في إشعال النار في بيتنا لتسخين مياه غسيل الملابس، والاغتسال!  عندما نشعر باقتراب المغرب كنا نجتمع بالقرب من باب المسجد الوحيد، ننتظر بشغف صعود إمام المسجد على الدرج الصغير المجاور لبوابة المسجد ليؤذن معتمدا على صوته، لعدم وجود مكبرات صوت، كان الإمامُ معتادا أن ينظر في ساعته المربوطة بسلسال طويل في جيبه العلوي كلَّ دقيقة، وعندما يضع يديه على أذنيه، كنا نصرخ بفرح ونحن نجري: أفطروا يا صائمين، حتى يسمعنا مَن لا يصلهم صوتُ آذانِ إمام المسجد.  صحون موائد إفطارنا مصفوفةٌ على الأرض، في الأواني الفخارية، يتوسط المائدة صحن السلطة الكبير، تُقسَّم وجبة الطبيخ الوحيدة في ثلاث (زبديات) فخارية لتتمكن الأيدي من الوصول إليها، بالإضافة إلى الخبز اليدوي، وفي نهاية الطعام نشرب الشاي المحلى، وقد تنتهي الوجبة بشريحة أو أكثر من البطيخ إن وُجد!  هكذا كان شهرُ رمضان لا يختلف عن بقية الشهور، كنا نعمل بالضبط كما كنا نعمل في الأشهر الأخرى، ولم نفكر في أن نحول فريضة الاقتصاد في هذا الشهر إلى شهر بَطرٍ وإسراف، أو نهرب بالنوم في النهار هروبا من الإحساس بالجوع!

 توفيق أبو شومر- فلسطين

قال الروائي الإسرائيلي، عاموس عوز المتوفى عام 2018م تعليقا على حرب عام 2008-2009 في غزة (عملية الرصاص المصبوب): "إن دولة إسرائيل مصابة بعقدة الشمشونية، وافقه الروائي، دافيد غروسمان، حينما أكد حقيقة وهي: “لا يمكن لإسرائيل أن تنجو من واقعها المرير إلا بإشفاء نفسها من عقدة الشمشونية الانتقامية"!

تذكرت أيضا ما ردده شمشون إسرائيل الحالي (نتنياهو) من آيات دينية عقب السابع من أكتوبر عام 2023م حين اقتطف من سفر صموئيل قال: "الآن اذهب واضرب عماليق (الفلسطينيين)، ولا تعفُ عنهم"

كثيرون نسوا أسطورة، شمشون القاضي الجبار، الواردة في سفر القضاة: "كان شمشون قاضيا لبني إسرائيل عشرين عاما، وكان يملك قوة خارقة، لدرجة أنه أمسك ثلاثمائة من الذئاب، وعلق في ذيولها مشاعل نارٍ وأطلقها على مزارع وبيوت الغزيين الفلسطينيين (العماليق) وأحرقها"!

تقول الرواية الأسطورية، استطاع سكان غزة أن يأسروا شمشون الجبار، بواسطة الفتاة الفلسطينية الجميلة (دليلة) التي كشفت عن سر قوته والتي تكمن في شَعره، وتمكنت من حلاقة شعره حتى أفقدته قوته، غير أن شعره نبت من جديد واستطاع في نهاية حياته أن ينتحر ويهدم المعبد على رأسه وعلى رؤوس الفلسطينيين المتواجدين في المعبد!

استطاع إعلاميو إسرائيل من جعل هذه الأسطورة أفلاما سينمائية عديدة للكبار والأطفال، ونسجوا منها فيلما دعائيا عام 1949م، أنتجته شركة بارامونت، وهو فيلم شمشون ودليلة، وقد حقق ثلاثين مليونا من الدولارات ربحا صافيا!

سأظل أتذكر أيضا سلسلة المجازر الشمشونية التي رصدها، دان ياهف المؤرخ الجديد في كتابه (طهارة السلاح) في بداية الألفية الثالثة، عام 2000م، عندما فُتح الأرشيف الإسرائيلي للباحثين، ثم أغلق حتى إشعار آخر، لأنه كان السبب في ولادة تيار (المؤرخين الإسرائيليين الجدد) رصد الكاتب مجازر إسرائيل في قرى الفلسطينيين، وكشف أسرار حوالي أربعين مجزرة إسرائيلية، ليس فقط مجزرة دير ياسين المشهورة، بل إن هناك مجازر أخرى أكثر بشاعة، مثل مجزرة قربة، قبيه، والصفصاف، واللد، وعشرات المجازر الأخرى!

هذه المجازر لم تنجُ منها مصر حين تعرضت لمجزرة مصنع أبي زعبل للحديد والصلب في شهر فبراير 1970م ردا على حرب الاستنزاف، حين دمرت طائراتُ إسرائيل المصنع، وقتلت سبعين موظفا، وعددا مثلهم من الجرحى، كذلك مجزرة الأطفال الصغار في مدرسة بحر البقر في محافظة الشرقية، في الثامن من إبريل 1970م، حين قصفت الطائرات الإسرائيلية المدرسة وقتلت أكثر من ثلاثين تلميذا غضا في المدرسة، وجرحت أكثر من خمسين طالبا جميلا، وارتكبت عددا كبيرا من المجازر في العالم العربي!

تذكرتُ أيضا شهادة الكاتب الإسرائيلي العراقي، لطيف دوري، وهو يشهد على مجزرة مدينة، كفر قاسم الفلسطينية في شهر أكتوبر 1956م، عندما أعلن جيشُ إسرائيل حظر التجول على القرية، بينما كان مزارعو القرية في حقولهم ولم يسمعوا عن حظر التجول، ولما عادوا قُتلوا جميعا برصاص الجيش الإسرائيل، وهم أكثر من خمسين فردا، وهذه المجزرة المعترف بها إسرائيليا، لدرجة أن رئيس دولة إسرائيل السابق، رؤوفين رفلين تحمل مسؤولية هذه الجريمة عندما زار القرية في ذكرى المجزرة واعتذر عن هذه المجزرة، يوم 20-10-2014م! ولكنه تعرض لهجوم المكارثيين الإسرائيليين، حتى أنهم ألبسوه الحطة والعقال في صحفهم!

وفي هذا السياق لا أنسى قول، بن غريون أول رئيس وزراء إسرائيلي عندما أعلن بصراحة وقال: "لولا مجزرة دير ياسين، لما أُسِّستْ إسرائيل"!

أبرز عددٌ من المؤرخين الجدد عقيدة الشمشونية الإسرائيلية باعتبارها مرضا، ولعل أبرز الكُتَّاب الذين أدركوا هذا المرض الخطير هو الكاتب اليساري من تيار المؤرخين الجدد، إيلان بابه في كتابه التطهير العرقي الذي أشار إلى مرض شمشونية إسرائيل الخطير: "إسرائيل دائمة السعي إلى نفي الآخرين وإقصائهم وتصفيتهم كأسلوب لبقائها على قيد الحياة"

كان، إيلان بابيه برفسورا في جامعة حيفا، أشرف على دراسة ماجستير للباحث، تيودور كاتس عام 1998م ووافق على منح شهادة الماجستير لهذا الباحث المجتهد، وشكره على رسالته (مجزرة الطنطورة) وهي قرية بجوار حيفا، والتي قتل فيها ثلاثمائة من الفلسطينيين الأبرياء، غير أن مكارثيي إسرائيل شككوا في هذه الرسالة، وأعادوا مناقشتها وحذفوها من الجامعة، مما دفع الباحث، إيلان بابيه للهجرة من إسرائيل إلى منفاه في بريطانيا، ولعلّ أبرز ما ورد في الكتاب الذي لم يحظ بكثير من الاهتمام، ليس في إسرائيل وحدها، بل في العالم العربي أيضا قوله: "إن ما جرى للفلسطينيين في إسرائيل من تطهير عرقي، لم يكن عفويا، بل كان مخططا أرسى قواعده، بن غريون نفسُه، فالعرب عام 1948 لم يهربوا كما زعمت الرواية الإسرائيلية، بل إنهم طُردوا بخطة مدروسة" وكان كاتبٌ إسرائيلي ثانٍ من تيار المؤرخين الجدد وهو، توم سيغف قد أشار أيضا إلى ذلك، في كتابه (الإسرائيليون الأوائل عام 1949م) وأكد أن غالبية مكونات المجتمع الإسرائيلي ما تزال مصابة بمرض الشمشونية الذي يعتمد المجازر كأهم أسس بقاء إسرائيل.

"عندما تمرُّ إسرائيل بضائقة سياسية أو اقتصادية، فإنها تعمدُ دائما إلى تفجير حربٍ جديدة، لهدف تجميع قواها وتخطي عقباتها ومآزقها العديدة، كلُّ من يدرس نظامها الحزبي عن قرب يُصاب بالدهشة لأن كل السياسيين في إسرائيل من اليمين واليسار لا يمكنهم أن ينجحوا في الاستفتاءات إلا إذا كانوا ضباط جيش، أو مشاركين في الحروب الشمشونية"!

تعليقات