أقسام الوصول السريع (مربع البحث)

الدليل الشامل للحج والعمرة التلبية هي شعار الحج وعلامته الدالة على توحيد الله جل وعلا؛ الذي هو روح الحج والمقصود منه، بل روح العبادات كلها والمقصود منها. و مما يدل على هذا المعنى قول جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن التلبية حين قال: ( فأهل رسول الله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» بالتوحيد، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك) (1) .  يقول ابن القيم رحمه الله تعالى : ( فالحج هو خاصة الحنيفية ومعونة الصلاة وسرُّ قول العبد ( لا إله إلا الله فإنه مؤسس على التوحيد المحض والمحبة الخالصة، وهو استزارة المحبوب لأحبابه ودعوته إلى بيته ومحل كرامته، ولهذا إذا دخلوا في هذه العبادة فشعارهم: «لبيك اللهم لبيك» إجابة محب لدعوة حبيبه، ولهذا كان للتلبية موقع عند الله، وكلما أكثر العبد منها كان أحب إلى ربه وأحظى، فهو لا يملك نفسه أن يقول: «لبيك اللهم لبيك حتى ينقطع نَفَسُه) (٢).  ويقول الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله تعالى عن التلبية: تلك التلبية تملأ قلب متدبرها إيمانًا وتوحيدا، وتجرده من الحظوظ والأهواء تجريدًا، وتعده لزيارة بيت الله والطواف، وهو في أحسن حال وأتم استعداد) (3). معنى التلبية: وللتلبية معان عدة منها ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى حيث قال ( والملبي هو المستسلم المنقاد لغيره، كما ينقاد الذي لُبّبَ وأُخذ بلبه (4)، والمعنى : إِنَّا مجيبوك لدعوتك، مستسلمون لحكمتك، مطيعون لأمرك مرة بعد مرة، لا نزال على ذلك) (5). حقيقة التلبية: إن الحاج والمعتمر حين يلبي فيقول: (لبيك اللهم لبيك..)، هو في الحقيقة يجيب دعوة الله جل وعلا لعباده بالحج والعمرة لبيته الشريف، حينما أمر الله جل وعلا أبانا إبراهيم عليه الصلاة والسلام بقوله: ﴿ وَأَذِن فِي النَّاسِ بِالْحَج يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يأتين مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴾ [الحج : ٢٧]. يقول الإمام مجاهد بن جبر رحمه الله تعالى في قوله: ﴿ وَأَذِن فِي النَّاسِ بِالْحَج ﴾  : (قام إبراهيم على مقامه فقال: يا أيها الناس أجيبوا ربكم، فقالوا: لبيك اللهم لبيك، فمن حج اليوم فهو ممن أجاب إبراهيم يومئذ ) (6).  ويقول الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى: (أي أعلمهم به، وادعهم إليه، وبَلَّغْ دانيهم وقاصيهم، فرضه وفضيلته، فإنك إذا دعوتهم، أتوك حجاجًا وعُمارًا) (7). ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عن حقيقة التلبية: (والتلبية هي: إجابة دعوة الله تعالى لخلقه، حين دعاهم إلى حج بيته على لسان خليله إبراهيم عليه السلام- إلى أن قال رحمه الله - والتلبية شعار الحج، فأفضل الحج العج والثج، فالعج: رفع الصوت بالتلبية، والثج إراقة دماء الهدي)(8).  وللحاج والمعتمر مع التلبية حكم وأسرار، منها: (۱) عندما لبس النبي «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم»  لباس الإحرام في حجة الوداع، وأراد التلبية والدخول في النسك، دعا ربه جل وعلا فقال: (اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة لبيك اللهم حجة وعمرة)(9).  فالنبي «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» في هذا الحديث الشريف يبين لنا أهمية الإخلاص الحج والعمرة، وأن على الحاج والمعتمر تجديد النية وإخلاص العمل عند الشروع في الحج والعمرة مع الحذر من كل شيء يناقض الإخلاص أو يضعفه في القلب، مع سؤال الله جل وعلا التوفيق إلى ذلك، كي يكون الحج والعمرة خالصة لله جل وعلا، وأن تكون التلبية بصدق وإخلاص. قال تعالى: ﴿ وَأَتِمُوا الْحَجَ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ﴾ [البقرة : ١٩٦].  يقول الشيخ عبد الرحمن الدوسري رحمه الله: (فيها الأمر الصريح من الله للمسلمين بالإخلاص في إتمام الحج والعمرة على الوجه الأكمل) (10). والإخلاص من أهم أعمال القلوب، بل يُعد عُمدة أعمال القلوب، وأساس صلاح السريرة، حيث إن جُلّ الأعمال القلبية المحبوبة الله عز وجل تعود إلى صفة الإخلاص (11). ويتبين أهمية الإخلاص في أمور عدة، منها: أ) أن الإخلاص الله جل وعلا ومتابعة النبي له هما شرطا قبول الأعمال، فإذا أخل العبد بأحد هذين الشرطين لم يقبل العمل. قال تعالى : ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَوَةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ) [الملك: ٢].  قال الفضيل بن عياض عن معنى : ﴿ أَحْسَنُ عَمَلًا ) .  هو أخلصه وأصوبه، قالوا يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ فقال: إن العمل إذا كان خالصًا، ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصًا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابًا؛ والخالص : أن يكون الله، والصواب أن يكون على السنة، ثم قرأ قوله تعالى: ﴿ فَمَن كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ، فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَلِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: ١١٠] (12) .  ب) أن تفاضل أعمال العباد عند الله جل وعلا والثواب عليها يكون على قدر الإخلاص وتحققه في الأعمال. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (فإن الأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلب من الإيمان والإخلاص، وإن الرجلين ليكون مقامهما في الصف ،واحدا، وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض) (13).  ويقول ابن قدامة رحمه الله تعالى: (وقد قيل ركعتان من عالم أفضل من سبعين من جاهل، وأريد به العالم بدقائق آفات الأعمال حتى يخلص عنها ، والجاهل ينظر إلى ظاهر العبادة) (14). فركعة من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أفضل من مئات الركعات من غيرهم وقيام ليلة منهم أفضل من قيام الليالي الكثيرة من غيرهم؛ لما في عبادة الأنبياء من كمال التعظيم والإجلال والإخلاص والخشوع ما ليس عند غيرهم(15). ج) أن الإخلاص يضاعف الأعمال وإن كانت صغيرة: قال تعالى: وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَعِفَهَا ﴾ [النساء: ٤٠] .  قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله عن هذه الآية: (أي إلى عشرة أمثالها إلى أكثر من ذلك، بحسب حالها ونفعها، وحال صاحبها إخلاصا ومحبة وكمالاً) (16).  د) أن الإخلاص إذا تحقق في عمل وإن كان صغيرًا أو يسيرًا فإنه يكون سببًا لتكفير الكبائر، وسببًا -كذلك - لدخول الجنة. وقد ذكر ابن تيمية رحمه الله تعالى حديث البغي التي سقت كلبًا فَغَفَرَ الله لها، والرجل الذي أماط الأذى عن الطريق فَغَفَر الله له ثم قال : (فهذه سقت الكلب بإيمان خالص كان في قلبها فغفر لها، وإلا فليس كل بغي سقت كلبًا يُغفر لها، وكذلك هذا الذي نحى غصن الشوك عن الطريق، فعله إذ ذاك بإيمان خالص، وإخلاص قائم بقلبه، فغُفر له بذلك، فإن الأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلب من الإيمان والإخلاص) (17).  وفي مقابل هؤلاء يُؤتى يوم القيامة بأناس جاؤا بأعمال كأمثال الجبال؛ فهذا عالم وحافظ للقرآن وآخر أنفق ماله، وآخر قتل في سبيل الله، ولكن لما خلت أعمالهم من الإخلاص وكانت لغير وجهه جل وعلا - رياءً وسمعةً وحباً للظهور – كان أصحابها نسأل الله (۲) العافية أول من تسعر بهم النار (18).  2) ينبغي للحاج والمعتمر عند التلبية أن يستحضر في قلبه الصدق مع الله جل وعلا في تلبيته، كي لا تكون مجرد قول باللسان لا معنى لها في واقعه ولا في سلوك حياته؛ وذلك بأن يستشعر حقيقة التلبية وأنها إجابة دعوة الله جل وعلا بالانقياد والتسليم الحكمته، وطاعة أوامره مرة بعد مرة، والدوام على ذلك. وثمة مثال يوضح ذلك - والله المثل الأعلى - لو أن ملكا طلب ن أحد رعيته زيارته في قصره ليغدق عليه بعض الهدايا والتحف، من فأجابه بقوله: (لبيك)، ثم أتاه وهو منصرف عنه بوجهه وقلبه، مستمر على مخالفة أمره، فما تظن أن يفعل به؟!!.  يقول ابن رجب رحمه الله تعالى: (وإن قال ذلك ثم بعمله، فقد كذَّب عمله قوله، وهو جدير أن يُجاب كما يُجاب من حج بمال حرام وقال: ( لبيك اللهم لبيك، فيقال: لا لبيك ولا سعديك )(19). والصدق مع الله جل وعلا من أجل أعمال القلوب وأعظمها. يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: (والإيمان أساسه الصدق، والنفاق أساسه الكذب؛ فلا يجتمع كذب وإيمان إلا وأحدهما محارب للآخر.  وأخبر سبحانه أنه في يوم القيامة لا ينفع العبد وينجيه من عذابه إلا صدقه قال تعالى: ﴿ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّدِقِينَ صِدْقُهُمْ هُمْ جَنَّتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَلِدِينَ فِيهَا أَبَدا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الفوزُ الْعَظِيمُ } [المائدة: (۱۱۹]، وقال تعالى: ﴿ وَالَّذِى جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَقَ بِهِ أَوَلَتَيْكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } [الزمر: ٣٣]، فالذي جاء بالصدق هو من شأنه الصدق في قوله وعمله وحاله))( 20).  3) إن الحاج والمعتمر إذا دخل في نسكه، وقال (لبيك اللهم لبيك) ؛ فإما يرد عليه بالقبول فيقال له: ( لبيك وسعديك )، وإما يرد عليه بعدم القبول، فيقال له: (لا لبيك ولا سعديك). نسأل الله العافية، وذلك بحسب حال الملبي. يقول ابن قدامة رحمه الله تعالى : ( وإذا لبي فليستحضر بتلبيته إجابة الله تعالى إذ قال: ﴿ وَأَذِن فِي النَّاسِ بِالْحَجَ }، وليرجُ القبول، وليخش عدم الإجابة) (21).  وهذا الأمر يجعل الحاج والمعتمر بين الخوف والرجاء، رجاء أن يرد عليه: (لبيك وسعديك)، وخوف أن يرد عليه: (لا لبيك ولا سعديك)؛ لأن التلبية بداية لنسك عظيم، وما يرد عليه فيها له ما بعده من التوفيق والقبول أو غير ذلك.  ولهذا كان بعض السلف الصالح رحمهم الله تعالى على ما فيهم من تقوى وصلاح يخشون أن يرد على تلبيتهم بعدم القبول.   فعن علي بن الحسين - زين العابدين - أنـه حـج، فلـما أحرم و استوت به راحلته اصفر لونه وارتعد، ولم يستطع أن يلبي، فقيل : ما لك لا تلبي ؟ فقال : أخشى أن يقول لي : لا لبيك ولا سعديك (22).  وقال بعض التابعين رُبَّ محرم يقول: (لبيك اللهم لبيك) فيقول الله: لا لبيك ولا سعديك هذا مردود عليك (23) . ولما كان الأمر بهذه الأهمية وجب على الحاج والمعتمر أن يعد لهذا الموقف عدته من التوبة الص            ادقة من الذنوب الظاهرة والباطنة وأن يكون حجه وعمرته بمال حلال وأن يهيئ قلبه بالخضوع والذل والانكسار والتعظيم الله جل وعلا، وأن تكون تلبيته عن صدق وإخلاص، فمن كانت هذه حاله فيرجى أن يرد عليه (لبيك وسعديك) فإن الله جواد كريم لطيف شكور.  قيل لابن عمر ما أكثر الحاج قال: ما أقلهم، وقال: الركب كثير والحاج قليل (۱).  وقال ابن رجب احذروا المعاصي فإنها تحرم المغفرة في مواسم الرحمة) (٢).  ٤) على الحاج والمعتمر عند التلبية أن يستحضر معناها وفضلها، فإن هذا مدعاة للإكثار منها بخشوع وتدبر، قال «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» : ( ما من مسلم يلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله من أو شجر أو مدر؛ حتى تنقطع الأرض من ها هنا وها هنا) (۳). المراجع (۱) رواه مسلم رقم (۱۲۱۸). (۲) (مفتاح دار السعادة) (٢/ ٨٦٩). (3) (رحلة الحجاز) نقلاً عن (الشوق والحنين إلى الحرمين) تأليف محمد بن موسى الشريف ص (۳۷). (4) أي بمجامع ثوبه. (5) (مجموع الفتاوى) (٢٦/ ١١٥). (6) (تفسير الطبري ) (٢٦/ ٥١٦) طبعة دار عالم الكتب.                                                                                                (7) (تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان . (8) (مجموع الفتاوى) (٢٦/ ١١٥-١١٦). (9) رواه ابن ماجه رقم (۲۸۹۰)، وصححه الألباني في (صحيح سنن ابن ماجه) رقم (۲۲۳۷). (10) (الحج أحكامه أسراره - منافعه) ص (٤٣). (11) انظر (يوم تبلى السرائر ) للشيخ عبد العزيز الجليل، ص (٦٢). (12) (مدارج السالكين) (۳۱۰/۲). (13) (منهاج السنة) (٢٢١/٦-٢٢٢). (14) (مختصر منهاج القاصدين) ص (٢٩٤). (15) انظر (يوم تبلى السرائر) ص (٦٢). (16) (تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان) ص (۱۷۹) طبعة مؤسسة الرسالة. (17) ( منهاج السنة) (٢٢١/٦).  (18) أصله حديث رواه مسلم رقم (١٩٠٥)، والترمذي رقم (۲۳۸۳). (19) (مجموع رسائل الحافظ ابن رجب الحنبلي) (۱۰۱/۱)، دراسة وتحقيق أبي مصعب طلعت بن فوائد الحلواني الناشر الفاروق الحديثة للطباعة والنشر. (20) (مدارج السالكين) (۷/۳). (21) انظر (مختصر منهاج القاصدين)، ص (٥٤). (22) انظر (القرى لقاصد أم القُرى) لمحب الدين الطبري ص(۱۷۸). (23) انظر (کتاب لطائف المعارف لابن رجب ص (٢٦٤). (24) المصدر السابق، ص (۷۳). (۲) المصدر السابق، ص (۲۹۷). (25) رواه الترمذي رقم (٧٥٧) وصححه الألباني في (صحيح الجامع) رقم .(ovv.)
التلبية هي شعار الحج وعلامته الدالة على توحيد الله جل وعلا؛ الذي هو روح الحج والمقصود منه، بل روح العبادات كلها والمقصود منها.

و مما يدل على هذا المعنى قول جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن التلبية حين قال: ( فأهل رسول الله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» بالتوحيد، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك) (1) .

يقول ابن القيم رحمه الله تعالى : ( فالحج هو خاصة الحنيفية ومعونة الصلاة وسرُّ قول العبد ( لا إله إلا الله فإنه مؤسس على التوحيد المحض والمحبة الخالصة، وهو استزارة المحبوب لأحبابه ودعوته إلى بيته ومحل كرامته، ولهذا إذا دخلوا في هذه العبادة فشعارهم: «لبيك اللهم لبيك» إجابة محب لدعوة حبيبه، ولهذا كان للتلبية موقع عند الله، وكلما أكثر العبد منها كان أحب إلى ربه وأحظى، فهو لا يملك نفسه أن يقول: «لبيك اللهم لبيك حتى ينقطع نَفَسُه) (٢).

ويقول الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله تعالى عن التلبية:
تلك التلبية تملأ قلب متدبرها إيمانًا وتوحيدا، وتجرده من الحظوظ والأهواء تجريدًا، وتعده لزيارة بيت الله والطواف، وهو في أحسن حال وأتم استعداد) (3).

معنى التلبية:

وللتلبية معان عدة منها ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى حيث قال ( والملبي هو المستسلم المنقاد لغيره، كما ينقاد الذي لُبّبَ وأُخذ بلبه (4)، والمعنى : إِنَّا مجيبوك لدعوتك، مستسلمون لحكمتك، مطيعون لأمرك مرة بعد مرة، لا نزال على ذلك) (5).

حقيقة التلبية:

إن الحاج والمعتمر حين يلبي فيقول: (لبيك اللهم لبيك..)، هو في الحقيقة يجيب دعوة الله جل وعلا لعباده بالحج والعمرة لبيته الشريف، حينما أمر الله جل وعلا أبانا إبراهيم عليه الصلاة والسلام بقوله: ﴿ وَأَذِن فِي النَّاسِ بِالْحَج يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يأتين مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴾ [الحج : ٢٧].

يقول الإمام مجاهد بن جبر رحمه الله تعالى في قوله: ﴿ وَأَذِن فِي النَّاسِ بِالْحَج ﴾  : (قام إبراهيم على مقامه فقال: يا أيها الناس أجيبوا ربكم، فقالوا: لبيك اللهم لبيك، فمن حج اليوم فهو ممن أجاب إبراهيم يومئذ ) (6).

ويقول الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى: (أي أعلمهم به، وادعهم إليه، وبَلَّغْ دانيهم وقاصيهم، فرضه وفضيلته، فإنك إذا دعوتهم، أتوك حجاجًا وعُمارًا) (7).

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عن حقيقة التلبية: (والتلبية هي: إجابة دعوة الله تعالى لخلقه، حين دعاهم إلى حج بيته على لسان خليله إبراهيم عليه السلام- إلى أن قال رحمه الله - والتلبية شعار الحج، فأفضل الحج العج والثج، فالعج: رفع الصوت بالتلبية، والثج إراقة دماء الهدي)(8).

وللحاج والمعتمر مع التلبية حكم وأسرار، منها:

(۱) عندما لبس النبي «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم»  لباس الإحرام في حجة الوداع، وأراد التلبية والدخول في النسك، دعا ربه جل وعلا فقال: (اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة لبيك اللهم حجة وعمرة)(9).

فالنبي «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» في هذا الحديث الشريف يبين لنا أهمية الإخلاص الحج والعمرة، وأن على الحاج والمعتمر تجديد النية وإخلاص العمل عند الشروع في الحج والعمرة مع الحذر من كل شيء يناقض الإخلاص أو يضعفه في القلب، مع سؤال الله جل وعلا التوفيق إلى ذلك، كي يكون الحج والعمرة خالصة لله جل وعلا، وأن تكون التلبية بصدق وإخلاص.

قال تعالى: ﴿ وَأَتِمُوا الْحَجَ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ﴾ [البقرة : ١٩٦].

يقول الشيخ عبد الرحمن الدوسري رحمه الله: (فيها الأمر الصريح من الله للمسلمين بالإخلاص في إتمام الحج والعمرة على الوجه الأكمل) (10).
والإخلاص من أهم أعمال القلوب، بل يُعد عُمدة أعمال القلوب، وأساس صلاح السريرة، حيث إن جُلّ الأعمال القلبية المحبوبة الله عز وجل تعود إلى صفة الإخلاص (11).

ويتبين أهمية الإخلاص في أمور عدة، منها:

أ) أن الإخلاص الله جل وعلا ومتابعة النبي له هما شرطا قبول الأعمال، فإذا أخل العبد بأحد هذين الشرطين لم يقبل العمل.

قال تعالى : ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَوَةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ) [الملك: ٢].

قال الفضيل بن عياض عن معنى : ﴿ أَحْسَنُ عَمَلًا ) 

هو أخلصه وأصوبه، قالوا يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ فقال: إن العمل إذا كان خالصًا، ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصًا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابًا؛ والخالص : أن يكون الله، والصواب أن يكون على السنة، ثم قرأ قوله تعالى: ﴿ فَمَن كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ، فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَلِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: ١١٠] (12) .

ب) أن تفاضل أعمال العباد عند الله جل وعلا والثواب عليها يكون على قدر الإخلاص وتحققه في الأعمال.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (فإن الأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلب من الإيمان والإخلاص، وإن الرجلين ليكون مقامهما في الصف ،واحدا، وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض) (13).

ويقول ابن قدامة رحمه الله تعالى: (وقد قيل ركعتان من عالم أفضل من سبعين من جاهل، وأريد به العالم بدقائق آفات الأعمال حتى يخلص عنها ، والجاهل ينظر إلى ظاهر العبادة) (14). فركعة من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أفضل من مئات الركعات من غيرهم وقيام ليلة منهم أفضل من قيام الليالي الكثيرة من غيرهم؛ لما في عبادة الأنبياء من كمال التعظيم والإجلال والإخلاص والخشوع ما ليس عند غيرهم(15).

ج) أن الإخلاص يضاعف الأعمال وإن كانت صغيرة: قال تعالى: وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَعِفَهَا ﴾ [النساء: ٤٠] .

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله عن هذه الآية: (أي إلى عشرة أمثالها إلى أكثر من ذلك، بحسب حالها ونفعها، وحال صاحبها إخلاصا ومحبة وكمالاً) (16).

د) أن الإخلاص إذا تحقق في عمل وإن كان صغيرًا أو يسيرًا فإنه يكون سببًا لتكفير الكبائر، وسببًا -كذلك - لدخول الجنة.

وقد ذكر ابن تيمية رحمه الله تعالى حديث البغي التي سقت كلبًا فَغَفَرَ الله لها، والرجل الذي أماط الأذى عن الطريق فَغَفَر الله له ثم قال : (فهذه سقت الكلب بإيمان خالص كان في قلبها فغفر لها، وإلا فليس كل بغي سقت كلبًا يُغفر لها، وكذلك هذا الذي نحى غصن الشوك عن الطريق، فعله إذ ذاك بإيمان خالص، وإخلاص قائم بقلبه، فغُفر له بذلك، فإن الأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلب من الإيمان والإخلاص) (17).

وفي مقابل هؤلاء يُؤتى يوم القيامة بأناس جاؤا بأعمال كأمثال الجبال؛ فهذا عالم وحافظ للقرآن وآخر أنفق ماله، وآخر قتل في سبيل الله، ولكن لما خلت أعمالهم من الإخلاص وكانت لغير وجهه جل وعلا - رياءً وسمعةً وحباً للظهور – كان أصحابها نسأل الله (۲) العافية أول من تسعر بهم النار (18).

2) ينبغي للحاج والمعتمر عند التلبية أن يستحضر في قلبه الصدق مع الله جل وعلا في تلبيته، كي لا تكون مجرد قول باللسان لا معنى لها في واقعه ولا في سلوك حياته؛ وذلك بأن يستشعر حقيقة التلبية وأنها إجابة دعوة الله جل وعلا بالانقياد والتسليم الحكمته، وطاعة أوامره مرة بعد مرة، والدوام على ذلك.

وثمة مثال يوضح ذلك - والله المثل الأعلى - لو أن ملكا طلب ن أحد رعيته زيارته في قصره ليغدق عليه بعض الهدايا والتحف، من فأجابه بقوله: (لبيك)، ثم أتاه وهو منصرف عنه بوجهه وقلبه، مستمر على مخالفة أمره، فما تظن أن يفعل به؟!!.

يقول ابن رجب رحمه الله تعالى: (وإن قال ذلك ثم بعمله، فقد كذَّب عمله قوله، وهو جدير أن يُجاب كما يُجاب من حج بمال حرام وقال: ( لبيك اللهم لبيك، فيقال: لا لبيك ولا سعديك )(19).

والصدق مع الله جل وعلا من أجل أعمال القلوب وأعظمها. يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: (والإيمان أساسه الصدق، والنفاق أساسه الكذب؛ فلا يجتمع كذب وإيمان إلا وأحدهما محارب للآخر.

وأخبر سبحانه أنه في يوم القيامة لا ينفع العبد وينجيه من عذابه إلا صدقه قال تعالى: ﴿ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّدِقِينَ صِدْقُهُمْ هُمْ جَنَّتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَلِدِينَ فِيهَا أَبَدا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الفوزُ الْعَظِيمُ } [المائدة: (۱۱۹]، وقال تعالى: ﴿ وَالَّذِى جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَقَ بِهِ أَوَلَتَيْكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } [الزمر: ٣٣]، فالذي جاء بالصدق هو من شأنه الصدق في قوله وعمله وحاله))( 20).

3) إن الحاج والمعتمر إذا دخل في نسكه، وقال (لبيك اللهم لبيك) ؛ فإما يرد عليه بالقبول فيقال له: ( لبيك وسعديك )، وإما يرد عليه بعدم القبول، فيقال له: (لا لبيك ولا سعديك). نسأل الله العافية، وذلك بحسب حال الملبي.

يقول ابن قدامة رحمه الله تعالى : ( وإذا لبي فليستحضر بتلبيته إجابة الله تعالى إذ قال: ﴿ وَأَذِن فِي النَّاسِ بِالْحَجَ }، وليرجُ القبول، وليخش عدم الإجابة) (21).

وهذا الأمر يجعل الحاج والمعتمر بين الخوف والرجاء، رجاء أن يرد عليه: (لبيك وسعديك)، وخوف أن يرد عليه: (لا لبيك ولا سعديك)؛ لأن التلبية بداية لنسك عظيم، وما يرد عليه فيها له ما بعده من التوفيق والقبول أو غير ذلك.

ولهذا كان بعض السلف الصالح رحمهم الله تعالى على ما فيهم من تقوى وصلاح يخشون أن يرد على تلبيتهم بعدم القبول. 

فعن علي بن الحسين - زين العابدين - أنـه حـج، فلـما أحرم و استوت به راحلته اصفر لونه وارتعد، ولم يستطع أن يلبي، فقيل : ما لك لا تلبي ؟ فقال : أخشى أن يقول لي : لا لبيك ولا سعديك (22).

وقال بعض التابعين رُبَّ محرم يقول: (لبيك اللهم لبيك) فيقول الله: لا لبيك ولا سعديك هذا مردود عليك (23) .

ولما كان الأمر بهذه الأهمية وجب على الحاج والمعتمر أن يعد لهذا الموقف عدته من التوبة الص            ادقة من الذنوب الظاهرة والباطنة وأن يكون حجه وعمرته بمال حلال وأن يهيئ قلبه بالخضوع والذل والانكسار والتعظيم الله جل وعلا، وأن تكون تلبيته عن صدق وإخلاص، فمن كانت هذه حاله فيرجى أن يرد عليه (لبيك وسعديك) فإن الله جواد كريم لطيف شكور.

قيل لابن عمر ما أكثر الحاج قال: ما أقلهم، وقال: الركب كثير والحاج قليل (۱).

وقال ابن رجب احذروا المعاصي فإنها تحرم المغفرة في مواسم الرحمة) (٢).

٤) على الحاج والمعتمر عند التلبية أن يستحضر معناها وفضلها، فإن هذا مدعاة للإكثار منها بخشوع وتدبر، قال «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» : ( ما من مسلم يلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله من أو شجر أو مدر؛ حتى تنقطع الأرض من ها هنا وها هنا) (۳).

المراجع

(۱) رواه مسلم رقم (۱۲۱۸).
(۲) (مفتاح دار السعادة) (٢/ ٨٦٩).
(3) (رحلة الحجاز) نقلاً عن (الشوق والحنين إلى الحرمين) تأليف محمد بن موسى الشريف ص (۳۷).
(4) أي بمجامع ثوبه.
(5) (مجموع الفتاوى) (٢٦/ ١١٥).
(6) (تفسير الطبري ) (٢٦/ ٥١٦) طبعة دار عالم الكتب.                                                                                                (7) (تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان .
(8) (مجموع الفتاوى) (٢٦/ ١١٥-١١٦).
(9) رواه ابن ماجه رقم (۲۸۹۰)، وصححه الألباني في (صحيح سنن ابن ماجه) رقم (۲۲۳۷).
(10) (الحج أحكامه أسراره - منافعه) ص (٤٣).
(11) انظر (يوم تبلى السرائر ) للشيخ عبد العزيز الجليل، ص (٦٢).
(12) (مدارج السالكين) (۳۱۰/۲).
(13) (منهاج السنة) (٢٢١/٦-٢٢٢).
(14) (مختصر منهاج القاصدين) ص (٢٩٤).
(15) انظر (يوم تبلى السرائر) ص (٦٢).
(16) (تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان) ص (۱۷۹) طبعة مؤسسة الرسالة.
(17) ( منهاج السنة) (٢٢١/٦). 
(18) أصله حديث رواه مسلم رقم (١٩٠٥)، والترمذي رقم (۲۳۸۳).
(19) (مجموع رسائل الحافظ ابن رجب الحنبلي) (۱۰۱/۱)، دراسة وتحقيق أبي مصعب طلعت بن فوائد الحلواني الناشر الفاروق الحديثة للطباعة والنشر.
(20) (مدارج السالكين) (۷/۳).
(21) انظر (مختصر منهاج القاصدين)، ص (٥٤).
(22) انظر (القرى لقاصد أم القُرى) لمحب الدين الطبري ص(۱۷۸).
(23) انظر (کتاب لطائف المعارف لابن رجب ص (٢٦٤).
(24) المصدر السابق، ص (۷۳). (۲) المصدر السابق، ص (۲۹۷).
(25) رواه الترمذي رقم (٧٥٧) وصححه الألباني في (صحيح الجامع) رقم .(ovv.)

تعليقات