و مما يدل على هذا المعنى قول جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن التلبية حين قال: ( فأهل رسول الله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» بالتوحيد، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك) (1) .
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى : ( فالحج هو خاصة الحنيفية ومعونة الصلاة وسرُّ قول العبد ( لا إله إلا الله فإنه مؤسس على التوحيد المحض والمحبة الخالصة، وهو استزارة المحبوب لأحبابه ودعوته إلى بيته ومحل كرامته، ولهذا إذا دخلوا في هذه العبادة فشعارهم: «لبيك اللهم لبيك» إجابة محب لدعوة حبيبه، ولهذا كان للتلبية موقع عند الله، وكلما أكثر العبد منها كان أحب إلى ربه وأحظى، فهو لا يملك نفسه أن يقول: «لبيك اللهم لبيك حتى ينقطع نَفَسُه) (٢).
معنى التلبية:
حقيقة التلبية:
يقول الإمام مجاهد بن جبر رحمه الله تعالى في قوله: ﴿ وَأَذِن فِي النَّاسِ بِالْحَج ﴾ : (قام إبراهيم على مقامه فقال: يا أيها الناس أجيبوا ربكم، فقالوا: لبيك اللهم لبيك، فمن حج اليوم فهو ممن أجاب إبراهيم يومئذ ) (6).
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عن حقيقة التلبية: (والتلبية هي: إجابة دعوة الله تعالى لخلقه، حين دعاهم إلى حج بيته على لسان خليله إبراهيم عليه السلام- إلى أن قال رحمه الله - والتلبية شعار الحج، فأفضل الحج العج والثج، فالعج: رفع الصوت بالتلبية، والثج إراقة دماء الهدي)(8).
وللحاج والمعتمر مع التلبية حكم وأسرار، منها:
(۱) عندما لبس النبي «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» لباس الإحرام في حجة الوداع، وأراد التلبية والدخول في النسك، دعا ربه جل وعلا فقال: (اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة لبيك اللهم حجة وعمرة)(9).
قال تعالى: ﴿ وَأَتِمُوا الْحَجَ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ﴾ [البقرة : ١٩٦].
ويتبين أهمية الإخلاص في أمور عدة، منها:
قال تعالى : ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَوَةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ) [الملك: ٢].
هو أخلصه وأصوبه، قالوا يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ فقال: إن العمل إذا كان خالصًا، ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصًا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابًا؛ والخالص : أن يكون الله، والصواب أن يكون على السنة، ثم قرأ قوله تعالى: ﴿ فَمَن كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ، فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَلِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: ١١٠] (12) .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (فإن الأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلب من الإيمان والإخلاص، وإن الرجلين ليكون مقامهما في الصف ،واحدا، وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض) (13).
ج) أن الإخلاص يضاعف الأعمال وإن كانت صغيرة: قال تعالى: وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَعِفَهَا ﴾ [النساء: ٤٠] .
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله عن هذه الآية: (أي إلى عشرة أمثالها إلى أكثر من ذلك، بحسب حالها ونفعها، وحال صاحبها إخلاصا ومحبة وكمالاً) (16).
وقد ذكر ابن تيمية رحمه الله تعالى حديث البغي التي سقت كلبًا فَغَفَرَ الله لها، والرجل الذي أماط الأذى عن الطريق فَغَفَر الله له ثم قال : (فهذه سقت الكلب بإيمان خالص كان في قلبها فغفر لها، وإلا فليس كل بغي سقت كلبًا يُغفر لها، وكذلك هذا الذي نحى غصن الشوك عن الطريق، فعله إذ ذاك بإيمان خالص، وإخلاص قائم بقلبه، فغُفر له بذلك، فإن الأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلب من الإيمان والإخلاص) (17).
وفي مقابل هؤلاء يُؤتى يوم القيامة بأناس جاؤا بأعمال كأمثال الجبال؛ فهذا عالم وحافظ للقرآن وآخر أنفق ماله، وآخر قتل في سبيل الله، ولكن لما خلت أعمالهم من الإخلاص وكانت لغير وجهه جل وعلا - رياءً وسمعةً وحباً للظهور – كان أصحابها نسأل الله (۲) العافية أول من تسعر بهم النار (18).
وثمة مثال يوضح ذلك - والله المثل الأعلى - لو أن ملكا طلب ن أحد رعيته زيارته في قصره ليغدق عليه بعض الهدايا والتحف، من فأجابه بقوله: (لبيك)، ثم أتاه وهو منصرف عنه بوجهه وقلبه، مستمر على مخالفة أمره، فما تظن أن يفعل به؟!!.
والصدق مع الله جل وعلا من أجل أعمال القلوب وأعظمها. يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: (والإيمان أساسه الصدق، والنفاق أساسه الكذب؛ فلا يجتمع كذب وإيمان إلا وأحدهما محارب للآخر.
وأخبر سبحانه أنه في يوم القيامة لا ينفع العبد وينجيه من عذابه إلا صدقه قال تعالى: ﴿ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّدِقِينَ صِدْقُهُمْ هُمْ جَنَّتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَلِدِينَ فِيهَا أَبَدا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الفوزُ الْعَظِيمُ } [المائدة: (۱۱۹]، وقال تعالى: ﴿ وَالَّذِى جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَقَ بِهِ أَوَلَتَيْكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } [الزمر: ٣٣]، فالذي جاء بالصدق هو من شأنه الصدق في قوله وعمله وحاله))( 20).
يقول ابن قدامة رحمه الله تعالى : ( وإذا لبي فليستحضر بتلبيته إجابة الله تعالى إذ قال: ﴿ وَأَذِن فِي النَّاسِ بِالْحَجَ }، وليرجُ القبول، وليخش عدم الإجابة) (21).
وهذا الأمر يجعل الحاج والمعتمر بين الخوف والرجاء، رجاء أن يرد عليه: (لبيك وسعديك)، وخوف أن يرد عليه: (لا لبيك ولا سعديك)؛ لأن التلبية بداية لنسك عظيم، وما يرد عليه فيها له ما بعده من التوفيق والقبول أو غير ذلك.
ولهذا كان بعض السلف الصالح رحمهم الله تعالى على ما فيهم من تقوى وصلاح يخشون أن يرد على تلبيتهم بعدم القبول.
فعن علي بن الحسين - زين العابدين - أنـه حـج، فلـما أحرم و استوت به راحلته اصفر لونه وارتعد، ولم يستطع أن يلبي، فقيل : ما لك لا تلبي ؟ فقال : أخشى أن يقول لي : لا لبيك ولا سعديك (22).
ولما كان الأمر بهذه الأهمية وجب على الحاج والمعتمر أن يعد لهذا الموقف عدته من التوبة الص ادقة من الذنوب الظاهرة والباطنة وأن يكون حجه وعمرته بمال حلال وأن يهيئ قلبه بالخضوع والذل والانكسار والتعظيم الله جل وعلا، وأن تكون تلبيته عن صدق وإخلاص، فمن كانت هذه حاله فيرجى أن يرد عليه (لبيك وسعديك) فإن الله جواد كريم لطيف شكور.
قيل لابن عمر ما أكثر الحاج قال: ما أقلهم، وقال: الركب كثير والحاج قليل (۱).
وقال ابن رجب احذروا المعاصي فإنها تحرم المغفرة في مواسم الرحمة) (٢).
وكالة البيارق الإعلامية www.bayariq.net
bayariqmedia@gmail.com
المدير العام ورئيس التحرير
محمد توفيق أحمد كريزم