مقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام والصلاة خلفه

الدليل الشامل للحج والعمرة

قال تعالى: ﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ فِيهِ وَايَتُ بَينَتُ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ ﴾ [آل عمران: ٩٦-٩٧]. وقال تعالى: ﴿ وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلَّى ﴾ [البقرة: ١٢٥].

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : ( قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه :  وافقت ربي في ثلاث أو وافقني ربي في ثلاث، قلت: يارسول الله، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت: وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلَّى ) ... الحديث (۱).

قال ابن حجر رحمه الله تعالى: (قال ابن الجوزي: إنما طلب عمر الاستنان بإبراهيم عليه السلام مع النهي عن النظر في كتاب التوراة لأنه سمع قول الله تعالى في حق إبراهيم:  ﴿ إنّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ﴾ وقوله تعالى: ﴿ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ ﴾ فعلم أن الائتمام بإبراهيم من هذه الشريعة، ولكون البيت مضافًا إليه وأن أثر قدميه في المقام كرقم الباني في البناء ليذكر به بعد موته، فرأى الصلاة عند المقام كقراءة الطائف بالبيت اســم مـــن بناه، انتهى، وهي مناسبة لطيفة) (2).

وعن جابر قال : استلم رسول الله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم»  الركن، فرمل ثلاثا، ومشى أربعًا، ثم تقدم إلى مقام إبراهيم: فقرأ: ﴿ وَاتَّخِذُوا مِن مقَامِ إِبْرَهِمَ مُصَلَّى ﴾، فجعل المقام بينه وبين البيت، فصلى ركعتين)(3).

 قال ابن كثير رحمه الله تعالى بعد ذكر هذه الأحاديث وغيرها (فهذا كله مما يدل على أن المراد بالمقام إنما هو الحَجَرُ الذي كان إبراهيم عليه السلام يقوم عليه لبناء الكعبة، لما ارتفع الجدار أتاه إسماعيل عليه السلام به ليقوم فوقه ويناوله الحجارة، فيضعها بيده لرفع الجدار- إلى أن قال رحمه الله - وكانت آثار قدميه ظاهرة فيه، ولم يزل هذا معروفًا تعرفه العرب في جاهليتها، ولهذا قال أبو طالب في قصيدته المعروفة اللامية:

وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة 

                                على قدميه حافيًا غير ناعل 

وقد أدرك المسلمون ذلك فيه أيضًا ) (4) .

ومقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي هو من الآيات البينات له في قلوبنا معان عدة، منها:

(1) أن النبي«صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم»  اتخذ مقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام مصلى كما أمره الله جل وعلا، ولم يزد على ذلك حيث لم يقبله ولم يستلمه أو يتبرك به، فمن فعل ذلك فقد أتى ببدعة منكرة خالف فيها هديه وسنته عليه الصلاة والسلام.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (حتى مقام إبراهيم الذي بمكة لا يقبل ولا يمسح ، فكيف بما سواه من المقامات والمشاهد (5).

(۲) ( مقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام وما فيه من أثر قدميه الشريفتين، هو من الذكر الحسن لهذا النبي الكريم، فقد استجاب الله جل وعلا دعاءه إذ دعا ربه: ﴿ وَاجْعَل لِي لِسَانَ صِدْقِ فِي الْآخِرِينَ ﴾ [الشعراء: ٨٤].

يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى: (ومن الحكم في ذلك : أنه قد جرت عادات الأمم بقيام التذكار لعظمائهم وكبرائهم، إحياءً لذكراهم، وتعظيما لهم، وإشادة بمجدهم و مآثرهم، وتنشيطا للاقتداء بأعمالهم، وأعظم الخلق على الإطلاق أنبياء الله ورسله؛ فهم الرجال العظماء في الحقيقة، وأعظمهم مطلقا الخليلان إبراهيم ومحمد صلى الله عليهم وسلم، والحج من أوله إلى آخره تذكرة لمقاماتهم السامية، وأحوالهم الزاكية، وأعمالهم العالية، فكل مشعر مذكر بأحوالهم)(6).

ويقول الشيخ عبد الرحمن الدوسري رحمه الله تعالى: (ينبغي للحاج أن ينطبع بالاقتداء بأبيه إبراهيم حينما يرى آثاره، فيحقق الملة الحنيفية التي هي الولاء في الله والبراء في الله، والحب في الله والبغض في الله والتضحية بمرادات النفس ومحبوباتها في سبيل مراد الله ومحبوبه ليكون متبعًا لملة إبراهيم حنيفا) (7) .

فيما يمر مقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام في ذاكرة المؤمن، ولا يشاهده حاج أو معتمر أو مقيم أو معتكف بالحرم إلا تذكر إبراهيم عليه الصلاة والسلام وما قام به من أعمال عظيمة كدعوته للتوحيد، وصبره على الأذى والبلاء في ذات الله والتسليم له، وبنائه البيت وغيرها من أعمال جليلة كانت سببًا بعد توفيق الله أن ينال درجة: (خليل الرحمن) ﴿ وإِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً ﴾ [النحل: ١٢٠] ﴿ و إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إمَامًا ﴾ [البقرة: ١٢٤].

فهذه السيرة المباركة العطرة تحرك في النفس علو الهمة، وسمو الروح، لنيل شرف محبة الله جل وعلا لعبده، وكذلك نيل منزلة الإمامة في الدين، إذ هي دعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام لذريته، قال تعالى: ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَتٍ فَأَتَمَهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِى الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: ١٢٤]. 

فإبراهيم عليه الصلاة والسلام لما أتم ما ابتلاه الله واختبره به من كلمات جعله الله للناس إمامًا، ولما دعى أن يكون من ذريته أئمةأجاب الله دعوته، ولكن لا ينال عهد الله وإمامة الدين الظالمون. فمن أراد الإمامة في الدين والسبق مع السابقين وأن تناله دعوة أبيه إبراهيم، فليتم ما ابتلاه الله واختبره به من أوامر ظاهرة وباطنة فليقمها، ونواه ظاهرة وباطنة فليجتنبها، مقتد في ذلك بالخليلين إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام.

والإمامة في الدين لا تنال إلا بالصبر واليقين قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين، ثم تلا قوله تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَبِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا  صَبَرُوا وَكَانُوا بِايَتِنَا يُوقِنُونَ ﴾ [السجدة: ٢٤].

والصبر واليقين عبادتان قلبيتان لا تجتمعان في قلب عبد حتى يجمع من خصال الخير وأعمال القلوب الشيء الكثير؛ لأنه بهما ينال المرتبة العالية، والمنزلة النادرة ألا وهي الإمامة في الدين. وقد تحدثت عن اليقين فيما سبق مما يغني عن الإعادة(8). 

وأما الصبر فمعناه حبس النفس عن الجزع والتسخط، وحبس اللسان عن التشكي والجوارح عن التشويش (9). 

والصبر نصف الإيمان، إذ الإيمان نصفان: نصف ونصف شكر (10).

ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى عن الصبر: اقترانه بمقامات الإسلام ،والإيمان، كما قرنه الله سبحانه ،باليقين، وبالإيمان وبالتقوى والتوكل، وبالشكر والعمل الصالح والرحمة.

ولهذا كان الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا إيمان لمن لا صبر له، كما أنه لا جسد لمن لا رأس له، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : (خير عيش أدركناه بالصبر)، وأخبر النبي «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» في الحديث الصحيح: (أنه ضياء))، وقال: (من يتصبر يصبره الله ) (11) (12) .

مراجع

1. رواه البخاري رقم (٤٤٨٣).
2. (فتح الباري) (١٦٩/٨).
3. رواه مسلم رقم (۱۲۱۸).
4. (تفسير القرآن العظيم) (٤١٦/١-٤١٧) طبعة دار طيبة.
   
5. (مجموع الفتاوى) (٢٨٤/٣).
6. (مجموع الفوائد واقتناص الأوابد) ص (٢٦٧). 
7. (الحج وأحكامه - أسراره- منافعه) ص (٥٩، ٦٠).
8. ارجع إلى عنوان (محظورات الإحرام) ص (٦٧).
9. انظر (مدارج السالكين) (٢/ ٤٢٦). 
10. انظر (مدارج السالكين) (٢/ ٤٢٠). 
11.  رواه مسلم رقم (٢٢٣).  
12. رواه البخاري رقم (١٤٦٩) ومسلم رقم (١٠٥٣).  
13. (مدارج السالكين) (٢/ ٤٢٤).
    
    

تعديل المقال