ذبح الهدي

الدليل الشامل للحج والعمرة الهدي ما يُهدى للحرم، من نعم وغيرها، سمي بذلك لأنه يهدى إلى الله سبحانه وتعالى(۱) . والهدي منه ما هو واجب ومنه ما هو سنة مستحبة. أما الواجب فهو شاة أو سبع بدنة أو سبع بقرة في حق المتمتع والقارن. أما السنة فهو ما أهدى المفرد والمعتمر من النعم، وما أهدى المقيم في بلده نَعَماً إلى مكة. فقد أهدى النبي  «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» وأصحابه رضوان الله عليهم في عمرة عام الحديبية. فعن مروان والمسور بن مخرمة قالا: (خرج النبي «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» عام الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه، فلما كان بذي الحليفة قلد الهدي (٢) وأشعر (۳) وأحرم منها ) (٤) . وقد أهدى النبي «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم»  وهو بالمدينة وبعث بها إلى مكة.  عن عائشة رضي الله عنها قالت: فتلت قلائد هدي النبي «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» ، ثم أشعرها وقلدها - أو قلدتها - ثم بعث بها إلى البيت وأقام بالمدينة فما حَرُمَ عليه شيء كان له حِلّ)(5) . وكذلك ما زاد على شاة أو سبع بقرة أو سبع بدنة في حق المتمتع ، والقارن ، فقد كان النبي «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم»  قارنا وأهدى مائة بدنة.  فعن علي بن أبي طالب قال: (أهدى النبي «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» مائة بدنه، فأمرني بلحومها فقسمتها، ثم أمرني بجلالها فقسمتها، ثم بجلودها فقسمتها)(6). قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (ثم انصرف إلى المنحر بمنى فنحر ثلاثا وستين بدنة بيده وكان ينحرها قائمة معقولة يدها اليسرى، وكان عدد هذا الذي نحره عدد سني عمره ثم أمسك وأمر عليا أن ينحر ما غبر (7) من المائة) (8). ولقد كان يكفيهم «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» أن يذبح في حجه شاة أو سبع بدنة أو سبع بقرة، ولكن أهدى مائة بدنة تعظيما الله جل وعلا. إذ الذبح أجل العبادات المالية، وهذه العبادة العظيمة تكتنفها أعمال قلوب كثيرة ينبغي للمؤمن استحضارها عند القيام بهذه العبادة، منها: (1) تعظيم الله جل جلاله، ولذا وجب ذكر اسم الله على الهدي والأضاحي عند الذبح إجلالاً وتعظيما لله عز وجل. قال تعالى: ﴿ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا ﴾ [الحج : ٣٦].   وقال تعالى: ﴿ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِرُوا اللَّهَ ﴾ [ الحج : ٣٧] أي تعظموه وتجلوه(9). وقال جل وعلا عن الهدايا والأضاحي ﴿ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ﴾ [الحج: ٣٦]، وبين جل جلاله أن تعظيمها من تقوى القلوب، وهو في الحقيقة من تعظيم الله جل وعلا ﴿ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾  [الحج: ٣٢]. قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى: (ومنها الهدايا، فتعظيمها باستحسانها واستسمانها ، وأن تكون مكملة من كل وجه، فتعظیم شعائر الله صادر من تقوى القلوب، فالمعظم لها يبرهن على تقواه وصحة إيمانه؛ لأن تعظيمها تابع لتعظيم الله وإجلاله)(10).  ولما كان الذبح فيه تعظيم لمن ذُبح له كان صرفه لغير الله جل وعلا من صنم أو وثن أو إنس أو جن شرك مخرج من الملة، قال تعالى:  ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ ﴾ [الأنعام: ١٦٢ - ١٦٣]. ونسكي: أي ذبحي، وقال جل وعلا: ﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَر ﴾ [الكوثر : ٢]. وقال «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» : ( لعن الله من ذبح لغير الله)(11). واللعن: هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله. (2) الإخلاص الله جل وعلا عند ذبحها، قال تعالى: ﴿ لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ ﴾* [الحج: ٣٧]. قال عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله تعالى عن هذه الآية: (أي: ليس المقصود منها ذبحها فقط، ولا ينال الله من لحومها ولا دمائها شيء، لكونه الغني الحميد، وإنما يناله الإخلاص فيها والاحتساب، والنية الصالحة، ولهذا قال: ﴿  ولَكن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ ﴾. ففي هـذا حـث وترغيـب عـلى الإخلاص في النحر، وأن يكون القصد وجه الله وحده، لا فخر ولا رياء، ولا سمعة ولا مجرد عادة، وهكذا سائر العبادات، إن لم يقترن بها الإخلاص وتقوى الله، كانت كالقشور الذي لا لُبَّ فيه، والجسد الذي لا روح فيه)(12). (3) سرور العبد وفرحه عند قيامه بهذه الطاعة لقربه من الله جل وعلا، وتواضعه له وصدق افتقاره وحسن الظن به وقوة اليقين، وطمأنينة القلب إليه جل وعلا. يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: ﴿ فَصَلَّ لِرَبِّكَ وَانْحَر﴾ [الكوثر : ٣] (أمره الله أن يجمع بين هاتين العبادتين العظيمتين، وهما الصلاة والنسك الدالتان على القرب والتواضع والافتقار وحسن الظن، وقوة اليقين، وطمأنينة القلب إلى الله، وإلى عِدَتِه وأَمْرِهِ، وفَضْلِهِ، وخَلَفِهِ، عكس حال أهل الكبر والنفرة وأهل الغنى عن الله - إلى أن قال رحمه الله -تعالى- وأجل العبادات المالية النحر، وأجل العبادات البدنية الصلاة، وما يجتمع للعبد في الصلاة لا يجتمع له في غيرها من سائر العبادات، كما عرفه أرباب القلوب الحية، وأصحاب الهمم العالية، وما يجتمع له في نحره من إيثار الله، وحسن الظن به وقوة اليقين والوثوق بما في يد الله أمر عجيب إذا قارن ذلك الإيمان والإخلاص، وقد امتثل النبي «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» أمر ربه فكان كثير الصلاة لربه كثير النحر ،حتى نحر بيده في حجة الوداع  ثلاثا وستين بدنة، وكان ينحر في الأعياد وغيرها) (13). (٤) محبة الله جل وعلا؛ لأن في ذبح الهدايا والأضاحي إيثاراً لما يحب الله جل وعلا في هذه العبادة العظيمة على محبة المال، وإن غلا ثمن الذبيحة أو كَرُمَت عند أهلها.  ولذا تجد من فقراء المسلمين - فضلاً عن أغنيائهم من يحرص على جمع ماله كي يضحي أو يهدي في حجه إيثارًا لما يحب الله جل وعلا على محبته للمال. ولعل هذا يذكرنا بأصل قصة الذبح وهو ما ذكر طرفًا منها في موضوع (رمي الجمار) (14). يقول الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله تعالى في تفسيره لقصة إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام عند قوله تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ﴾ [الصافات: ١٠٦]: (إن هذا: الذي امتحنا به إبراهيم عليه السلام لهو البلاء المبين أي: الواضح، الذي تبين به صفاء إبراهيم، وكمال محبته لربه، وخلته، فإن إسماعيل عليه السلام لما وهبه الله لإبراهيم، أحبه حبا شديدا، وإبراهيم عليه الصلاة والسلام خليل الرحمن والخلة أعلى مراتب المحبة، لذا أراد تعالى أن يصفي وده ويختبر خلته - وهو العليم الخبير - فأمره بذبح ابنه بيده، فلما قدم حب الله، وآثره على هواه، وعزم على ذبحه بقى الذبح لا فائدة فيه فلهذا قال:﴿ إإِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ [الصافات: ١٠٦-١٠٧](15). وهذه القصة العظيمة وهذا البلاء المبين لنا فيه عبرة وعظة، فحقيقة الأمر أنه لا يُعاب على المسلم في محبته لوالديه أو زوجه أو أبنائه أو إخوته أو شيء من ملاذ الدنيا المباحة شريطة أن لا يقدم أو يزاحم محبة الله جل وعلا ورسوله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» في قلبه. يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: (لا عيب على الرجل في محبته لأهله، وعشقه لها، إلا إذا أشغله ذلك عن محبة ما هو أنفع له من محبة الله ورسوله وزاحم حبَّه وحبّ رسوله، فإن كل محبة زاحمت محبة الله جل وعلا ورسوله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم»، بحيث تضعفها وتنقصها فهي مذمومة) (16) . فإذا زاحمت هذه المحبوبات محبة الله جل وعلا ورسوله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» في قلبه، فقد يكون عرضة لأن يبتليه ويمتحنه الله جل وعلا بمن يحب ليظهر صدق محبته الله جل وعلا ورسوله من نقصها . ومن صور هذا الابتلاء: أن يطلب منه من يحبه من زوج أو ولد أو غيرهما أمرًا فيه معصية الله عز وجل ورسوله  «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» ، أو أن يكون في حصوله على ما يحب من مال أو جاه معصية الله جل وعلا ورسوله  «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» . أن يشغله من يحب عن طاعة واجبة أو تقصير فيها. أن يشغله من يحب عن المراتب العالية والمنازل الرفيعة التي هي من محاب الله جل وعلا، ومحاب رسوله  «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» .  والبلاء هنا: هل يقدم ما أمر الله جل وعلا ورسوله  «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم»  به وندبا إليه، أم ما يحبه ويهواه من يحب؟ فإن اجتاز المسلم هذا البلاء والامتحان بخير فقد نجى وعلا قدره عند ربه، وإن أخفق فلربما عذبه الله بمن يحب، وقد قيل: (من أحب شيئًا دون الله عُذب به). ومن صور هذا العذاب أن يتعب ويشقى في الحصول على من يحبه من زوج أو ولد أو مال أو جاه، ثم هو بعد الحصول عليه يخشى صدوده، أو زواله، فهو مشغول ومعذب به. وهذا المحب لا يشعر أن سبب عذابه هو مزاحمة محبوبه لمحبة الله جل وعلا ورسوله الله  «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» في قلبه . ولو جرد قلبه ممن أحب وجعل حبه له حبًا بقدر، بحيث لا يزاحم حب الله جل وعلا ولا حب رسوله الله في قلبه؛ لزال عنه العذاب الذي نغص عليه حياته وكدر عليه لذاته، وشغله عن ربه جل وعلا. ولنا في رسول الله  «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» أسوة حسنة فإنه رغم مع محبته  «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» لأمهات المؤمنين لا سيما خديجة وعائشة رضوان الله عليهن ومحبته لأصحابه لا سيما أبا بكر وعمر رضوان الله عليهم؛ إلا أنه  «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» أعطى كل واحد ممن يحب قدره من المحبة، بحيث لا تزاحم محبته محبة الله جل وعلا في قلبه ، فقد قال علي الهلال: (إني أبرأ إلى كل خليل من خلته، ولو كنت متخذا خليلاً من أهل الأرض لا تخذتُ أبا بكر خليلاً) (16). وبين عليها أنه الخليل الرحمن فقال له : (ولكن صاحبكم خلیل الله ) (17). فمحبة الله جل وعلا في قلب المسلم موجودة ولكن تجريدها لله وحده شيء آخر؛ لذا يجب على المؤمن أن يراعي قلبه ويراقبه من . لآخر كي لا يقع شيء من الدنيا أو أهلها في مزاحمة محبة الله جل وعلا ورسوله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» فيشقى ويعذب بمن أحب وهو لا يشعر ولا يدري من أين أتي. ولو راجع قلبه وحاسب نفسه لعلم أنه أتي من قبل محبته لغير الله نسأل الله العفو والعافية. مراجع انظر (حاشية الروض المربع ) للشيخ عبد الرحمن ابن قاسم (٢١٥/٤) (قلد الهدي) : أي وضع على عنقها قلادة من شعر أو صوف أو نغل. (أشعر ) : أي أشعر الهدي والإشعار : هو أن يكشط جلد البدنة في سنامها حتى يسيل دم ثم يسلته فيكون ذلك علامة على كونها هديًا، انظر (فتح الباري) (٥٤٤/٣). رواه البخاري رقم (٤١٥٧ ، ٤١٥٨). رواه البخاري رقم (١٦٩٩). رواه البخاري رقم (۱۷۱۸). أي ما بقي من المائة. (٤) (زاد المعاد) (٥٩/٢) طبعة مؤسسة الرسالة. (تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام (المنان لعبد الرحمن السعدي، ص (٥٣٩) طبعة مؤسسة الرسالة. المرجع السابق نفسه. رواه مسلم رقم (۱۹۷۸) وغيره. (تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان) ص (٥٣٩) طبعة مؤسسة الرسالة. (مجموع الفتاوى) (٥٣١/١٦-٥٣٢). (رمي الجمار ) ص (١٤٣).  انظر ( تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص (٧٠٦) بتصرف يسير.   (إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان) (١٩٦/٢).  رواه مسلم رقم (۲۳۸۳).   رواه البخاري رقم (٣٤٥٦)، ومسلم رقم (۲۳۸۳).

الدليل الشامل للحج والعمرة

الهدي ما يُهدى للحرم، من نعم وغيرها، سمي بذلك لأنه يهدى إلى الله سبحانه وتعالى(۱) .
والهدي منه ما هو واجب ومنه ما هو سنة مستحبة.
أما الواجب فهو شاة أو سبع بدنة أو سبع بقرة في حق المتمتع والقارن.
أما السنة فهو ما أهدى المفرد والمعتمر من النعم، وما أهدى المقيم في بلده نَعَماً إلى مكة.
فقد أهدى النبي  «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» وأصحابه رضوان الله عليهم في عمرة عام الحديبية.
فعن مروان والمسور بن مخرمة قالا: (خرج النبي «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» عام الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه، فلما كان بذي الحليفة قلد الهدي (٢) وأشعر (۳) وأحرم منها ) (٤) .
وقد أهدى النبي «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم»  وهو بالمدينة وبعث بها إلى مكة. 
عن عائشة رضي الله عنها قالت: فتلت قلائد هدي النبي «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» ، ثم أشعرها وقلدها - أو قلدتها - ثم بعث بها إلى البيت وأقام بالمدينة فما حَرُمَ عليه شيء كان له حِلّ)(5) .
وكذلك ما زاد على شاة أو سبع بقرة أو سبع بدنة في حق المتمتع ، والقارن ، فقد كان النبي «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم»  قارنا وأهدى مائة بدنة. 
فعن علي بن أبي طالب قال: (أهدى النبي «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» مائة بدنه، فأمرني بلحومها فقسمتها، ثم أمرني بجلالها فقسمتها، ثم بجلودها فقسمتها)(6).
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (ثم انصرف إلى المنحر بمنى فنحر ثلاثا وستين بدنة بيده وكان ينحرها قائمة معقولة يدها اليسرى، وكان عدد هذا الذي نحره عدد سني عمره ثم أمسك وأمر عليا أن ينحر ما غبر (7) من المائة) (8).
ولقد كان يكفيهم «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» أن يذبح في حجه شاة أو سبع بدنة أو سبع بقرة، ولكن أهدى مائة بدنة تعظيما الله جل وعلا.
إذ الذبح أجل العبادات المالية، وهذه العبادة العظيمة تكتنفها أعمال قلوب كثيرة ينبغي للمؤمن استحضارها عند القيام بهذه العبادة، منها:
(1) تعظيم الله جل جلاله، ولذا وجب ذكر اسم الله على الهدي والأضاحي عند الذبح إجلالاً وتعظيما لله عز وجل. قال تعالى: ﴿ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا ﴾ [الحج : ٣٦].  
وقال تعالى: ﴿ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِرُوا اللَّهَ ﴾ [ الحج : ٣٧] أي تعظموه وتجلوه(9).
وقال جل وعلا عن الهدايا والأضاحي ﴿ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ﴾ [الحج: ٣٦]، وبين جل جلاله أن تعظيمها من تقوى القلوب، وهو في الحقيقة من تعظيم الله جل وعلا ﴿ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ   [الحج: ٣٢].
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى: (ومنها الهدايا، فتعظيمها باستحسانها واستسمانها ، وأن تكون مكملة من كل وجه، فتعظیم شعائر الله صادر من تقوى القلوب، فالمعظم لها يبرهن على تقواه وصحة إيمانه؛ لأن تعظيمها تابع لتعظيم الله وإجلاله)(10). 
ولما كان الذبح فيه تعظيم لمن ذُبح له كان صرفه لغير الله جل وعلا من صنم أو وثن أو إنس أو جن شرك مخرج من الملة، قال تعالى:  ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ ﴾ [الأنعام: ١٦٢ - ١٦٣]. ونسكي: أي ذبحي، وقال جل وعلا: ﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَر ﴾ [الكوثر : ٢].
وقال «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» : ( لعن الله من ذبح لغير الله)(11). واللعن: هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله.
(2) الإخلاص الله جل وعلا عند ذبحها، قال تعالى: ﴿ لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ * [الحج: ٣٧].
قال عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله تعالى عن هذه الآية: (أي: ليس المقصود منها ذبحها فقط، ولا ينال الله من لحومها ولا دمائها شيء، لكونه الغني الحميد، وإنما يناله الإخلاص فيها والاحتساب، والنية الصالحة، ولهذا قال: ﴿  ولَكن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ . ففي هـذا حـث وترغيـب عـلى الإخلاص في النحر، وأن يكون القصد وجه الله وحده، لا فخر ولا رياء، ولا سمعة ولا مجرد عادة، وهكذا سائر العبادات، إن لم يقترن بها الإخلاص وتقوى الله، كانت كالقشور الذي لا لُبَّ فيه، والجسد الذي لا روح فيه)(12).

(3) سرور العبد وفرحه عند قيامه بهذه الطاعة لقربه من الله جل وعلا، وتواضعه له وصدق افتقاره وحسن الظن به وقوة اليقين، وطمأنينة القلب إليه جل وعلا.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: ﴿ فَصَلَّ لِرَبِّكَ وَانْحَر﴾ [الكوثر : ٣] (أمره الله أن يجمع بين هاتين العبادتين العظيمتين، وهما الصلاة والنسك الدالتان على القرب والتواضع والافتقار وحسن الظن، وقوة اليقين، وطمأنينة القلب إلى الله، وإلى عِدَتِه وأَمْرِهِ، وفَضْلِهِ، وخَلَفِهِ، عكس حال أهل الكبر والنفرة وأهل الغنى عن الله - إلى أن قال رحمه الله -تعالى- وأجل العبادات المالية النحر، وأجل العبادات البدنية الصلاة، وما يجتمع للعبد في الصلاة لا يجتمع له في غيرها من سائر العبادات، كما عرفه أرباب القلوب الحية، وأصحاب الهمم العالية، وما يجتمع له في نحره من إيثار الله، وحسن الظن به وقوة اليقين والوثوق بما في يد الله أمر عجيب إذا قارن ذلك الإيمان والإخلاص، وقد امتثل النبي «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» أمر ربه فكان كثير الصلاة لربه كثير النحر ،حتى نحر بيده في حجة الوداع  ثلاثا وستين بدنة، وكان ينحر في الأعياد وغيرها) (13).
(٤) محبة الله جل وعلا؛ لأن في ذبح الهدايا والأضاحي إيثاراً لما يحب الله جل وعلا في هذه العبادة العظيمة على محبة المال، وإن غلا ثمن الذبيحة أو كَرُمَت عند أهلها. 
ولذا تجد من فقراء المسلمين - فضلاً عن أغنيائهم من يحرص على جمع ماله كي يضحي أو يهدي في حجه إيثارًا لما يحب الله جل وعلا على محبته للمال.
ولعل هذا يذكرنا بأصل قصة الذبح وهو ما ذكر طرفًا منها في موضوع (رمي الجمار) (14).
يقول الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله تعالى في تفسيره لقصة إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام عند قوله تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ﴾ [الصافات: ١٠٦]: (إن هذا: الذي امتحنا به إبراهيم عليه السلام لهو البلاء المبين أي: الواضح، الذي تبين به صفاء إبراهيم، وكمال محبته لربه، وخلته، فإن إسماعيل عليه السلام لما وهبه الله لإبراهيم، أحبه حبا شديدا، وإبراهيم عليه الصلاة والسلام خليل الرحمن والخلة أعلى مراتب المحبة، لذا أراد تعالى أن يصفي وده ويختبر خلته - وهو العليم الخبير - فأمره بذبح ابنه بيده، فلما قدم حب الله، وآثره على هواه، وعزم على ذبحه بقى الذبح لا فائدة فيه فلهذا قال:﴿ إإِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات: ١٠٦-١٠٧](15).
وهذه القصة العظيمة وهذا البلاء المبين لنا فيه عبرة وعظة، فحقيقة الأمر أنه لا يُعاب على المسلم في محبته لوالديه أو زوجه أو أبنائه أو إخوته أو شيء من ملاذ الدنيا المباحة شريطة أن لا يقدم أو يزاحم محبة الله جل وعلا ورسوله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» في قلبه.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: (لا عيب على الرجل في محبته لأهله، وعشقه لها، إلا إذا أشغله ذلك عن محبة ما هو أنفع له من محبة الله ورسوله وزاحم حبَّه وحبّ رسوله، فإن كل محبة زاحمت محبة الله جل وعلا ورسوله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم»، بحيث تضعفها وتنقصها فهي مذمومة) (16) .
فإذا زاحمت هذه المحبوبات محبة الله جل وعلا ورسوله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» في قلبه، فقد يكون عرضة لأن يبتليه ويمتحنه الله جل وعلا بمن يحب ليظهر صدق محبته الله جل وعلا ورسوله من نقصها . ومن صور هذا الابتلاء:
  1. أن يطلب منه من يحبه من زوج أو ولد أو غيرهما أمرًا فيه معصية الله عز وجل ورسوله  «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» ، أو أن يكون في حصوله على ما يحب من مال أو جاه معصية الله جل وعلا ورسوله  «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» .
  2. أن يشغله من يحب عن طاعة واجبة أو تقصير فيها.
  3. أن يشغله من يحب عن المراتب العالية والمنازل الرفيعة التي هي من محاب الله جل وعلا، ومحاب رسوله  «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» 
  4. والبلاء هنا: هل يقدم ما أمر الله جل وعلا ورسوله  «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم»  به وندبا إليه، أم ما يحبه ويهواه من يحب؟
فإن اجتاز المسلم هذا البلاء والامتحان بخير فقد نجى وعلا قدره عند ربه، وإن أخفق فلربما عذبه الله بمن يحب، وقد قيل: (من أحب شيئًا دون الله عُذب به).
ومن صور هذا العذاب أن يتعب ويشقى في الحصول على من يحبه من زوج أو ولد أو مال أو جاه، ثم هو بعد الحصول عليه يخشى صدوده، أو زواله، فهو مشغول ومعذب به.
وهذا المحب لا يشعر أن سبب عذابه هو مزاحمة محبوبه لمحبة الله جل وعلا ورسوله الله  «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» في قلبه .
ولو جرد قلبه ممن أحب وجعل حبه له حبًا بقدر، بحيث لا يزاحم حب الله جل وعلا ولا حب رسوله الله في قلبه؛ لزال عنه العذاب الذي نغص عليه حياته وكدر عليه لذاته، وشغله عن ربه جل وعلا.
ولنا في رسول الله  «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» أسوة حسنة فإنه رغم مع محبته  «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» لأمهات المؤمنين لا سيما خديجة وعائشة رضوان الله عليهن ومحبته لأصحابه لا سيما أبا بكر وعمر رضوان الله عليهم؛ إلا أنه  «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» أعطى كل واحد ممن يحب قدره من المحبة، بحيث لا تزاحم محبته محبة الله جل وعلا في قلبه ، فقد قال علي الهلال: (إني أبرأ إلى كل خليل من خلته، ولو كنت متخذا خليلاً من أهل الأرض لا تخذتُ أبا بكر خليلاً) (16).
وبين عليها أنه الخليل الرحمن فقال له : (ولكن صاحبكم خلیل الله ) (17).
فمحبة الله جل وعلا في قلب المسلم موجودة ولكن تجريدها لله وحده شيء آخر؛ لذا يجب على المؤمن أن يراعي قلبه ويراقبه من . لآخر كي لا يقع شيء من الدنيا أو أهلها في مزاحمة محبة الله جل وعلا ورسوله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم» فيشقى ويعذب بمن أحب وهو لا يشعر ولا يدري من أين أتي.
ولو راجع قلبه وحاسب نفسه لعلم أنه أتي من قبل محبته لغير الله نسأل الله العفو والعافية.

مراجع

  1. انظر (حاشية الروض المربع ) للشيخ عبد الرحمن ابن قاسم (٢١٥/٤)
  2. (قلد الهدي) : أي وضع على عنقها قلادة من شعر أو صوف أو نغل.
  3. (أشعر ) : أي أشعر الهدي والإشعار : هو أن يكشط جلد البدنة في سنامها حتى يسيل دم ثم يسلته فيكون ذلك علامة على كونها هديًا، انظر (فتح الباري) (٥٤٤/٣).
  4. رواه البخاري رقم (٤١٥٧ ، ٤١٥٨).
  5. رواه البخاري رقم (١٦٩٩).
  6. رواه البخاري رقم (۱۷۱۸).
  7. أي ما بقي من المائة. (٤)
  8. (زاد المعاد) (٥٩/٢) طبعة مؤسسة الرسالة.
  9. (تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام (المنان لعبد الرحمن السعدي، ص (٥٣٩) طبعة مؤسسة الرسالة.
  10. المرجع السابق نفسه.
  11. رواه مسلم رقم (۱۹۷۸) وغيره.
  12. (تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان) ص (٥٣٩) طبعة مؤسسة الرسالة.
  13. (مجموع الفتاوى) (٥٣١/١٦-٥٣٢).
  14. (رمي الجمار ) ص (١٤٣). 
  15. انظر ( تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص (٧٠٦) بتصرف يسير.  
  16. (إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان) (١٩٦/٢). 
  17. رواه مسلم رقم (۲۳۸۳). 
  18.  رواه البخاري رقم (٣٤٥٦)، ومسلم رقم (۲۳۸۳).
تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -
    news-releaseswoman