سلاح رخيص وفتاك: كيف قلبت المسيّرات موازين القوة؟

أقسام الوصول السريع (مربع البحث)

سلاح رخيص وفتاك: كيف قلبت المسيّرات موازين القوة؟

شؤؤن عسكرية تشهد الحروب المعاصرة تحوّلاً جذرياً بفعل الطائرات المسيّرة التي تعيد رسم خرائط النزاعات بوتيرة متسارعة، وتثير في طريقها أسئلةً جوهرية حول حدود المساءلة ومدى الالتزام بقواعد القانون الإنساني الدولي. وتشهد القدرات الذاتية للمسيّرات تقدما تقنيا متسارعا على نحو غير مسبوق، ما لايدفع الخبراء والخبيرات إلى التحذير من عجز الأطر القانونية الراهنة عن اللحاق بهذه الطفرة التكنولوجية المتنامية.  ويؤكد مؤيدو استخدام الطائرات المسيّرة ومؤيداتها دقتها البالغة ويشبهونها بمشرط جراحي رقمي يجري عملية في منطقة الخلل بعناية محسوبة، ما يسهم – في زعمهم.هنّ – في الحد من الأضرار الجانبية. غير أن الارتفاع المطّرد في أعداد الضحايا المدنيين.ات حول العالم يُكذّب أسطورة “الحرب النظيفة”، ويُظهر زيف الاعتقاد بأن التكنولوجيا وحدها كفيلة بإضفاء طابع أخلاقي على القتال، ما يثير تساؤلات متنامية حول قدرة القوانين الدولية الراهنة على حماية المدنيين.ات في زمن الذكاء الاصطناعي والحروب المؤتمتة.  وتفيد مجموعة الأبحاث البريطانية “درون وورز المملكة المتحدة ” (Drone Wars UK) بأن اعتماد المسيّرات ساهم في تخفيض عتبة التحفّظ السياسي على استخدام القوة – بل ربما التسرّع في اللجوء إلى العنف – كما وسّع من نطاق عمليات الاغتيال الممنهجة، وقوّض في المقابل أدوات المحاسبة والمساءلة. فكلّما ازداد بُعد اليد الضاربة عن ساحة المعركة، تضاعفت صعوبة إخضاعها للمحاسبة القانونية. وفي تقريرها المعنون “الموت عند التسليم“، والصادر في مارس الماضي، وثّقت المجموعة مقتل ما لا يقل عن 943 مدنياً و مدنيةً في خمسين واقعة ناتجة عن ضربات مسيّرة وقعت بين نوفمبر 2021 ونوفمبر 2024، في أفريقيا وحدها. وقد سُجّل نحو نصف تلك الحصيلة (490 قتيلاً وقتيلةً) نتيجة هجمات نفّذتها مسيّرات إثيوبية. أما الضربات الأخرى، فاستهدفت بلدان مثل بوركينا فاسو، ومالي، والصومال، ونيجيريا، والسودان.  وفي هذا السياق، تقول كورا موريس، المشاركة في إعداد التقرير: “يبدو أنّ مفهوم “الهدف المشروع” قد اتّسع إلى درجة باتت معها مناطق بأكملها عرضة لضربات مكثّفة، دون تمييز حقيقي بين المدنيين.ات والمقاتلين.ات الموجودين.ات في ساحة المعركة ذاتها. ففي إثيوبيا، على سبيل المثال، ينتمي عدد كبير من الضحايا إلى إقليمي أمهرة وتيغراي، حيث يكفي الانتماء المناطقي، أو الإثني لتصنيف الفرد كهدف محتمل في كثير من الأحيان”. وحتى وقت قريب، كانت المسيّرات تُستخدم في الغالب ضمن إطار حملات مكافحة الإرهاب، التي تقودها الولايات المتحدة. وكانت قرارات تنفيذ اغتيالات خارج نطاق القضاء في دول لا تخوض حرباً مباشرة مع واشنطن ، مثل باكستان، تمثّل بؤرة جدل قانوني وانتقاد دولي مستمر.  أما اليوم، فقد غدت المسيّرات أداة مألوفة في الحروب النظامية والنزاعات الداخلية على حدّ سواء، إذ تعتمد عليها قرابة خمسين دولة في ساحات الصراع؛ إنها سلاح منخفض الكلفة، وبالغ التأثير، يهدّد بتجاوز القانون الإنساني الدولي، ويقوّض المعايير العالمية المنظّمة لتجارة السلاح واستخدامه. وقد تسبّبت هذه الضربات في سقوط مئات، وربما آلاف، القتلى من المدنيين.ات، خلال السنوات القليلة الماضية.  ما سرّ هذا الانتشار الكاسح؟ ولكن، ما الذي يفسّر الانتشار المتسارع للطائرات المسيّرة حول العالم؟ الجواب في كلمتين: التكلفة، والسهولة. فقد باتت المسيّرات القادرة على الطيران بعيدا، وعلى ارتفاع متوسط؛ المسمّاة اختصارًا “ميل” (MALE)، والتي كانت حتى وقت قريب حكرًا على دول كبرى، كالولايات المتحدة، وبريطانيا، وإسرائيل، والصين، تُصدَّر اليوم بأسعار زهيدة من قِبل دول، مثل تركيا وإيران، مستفيدةً من وفرة المكوّنات الجاهزة في الأسواق التجارية، واعتماد التصاميم المعيارية، وتوظيف تقنيات مفتوحة المصدر، تُطوّر بسرعة وبتكلفة محدودة، خارج الإطار العسكري التقليدي.  وقد سارعت العديد من الحكومات إلى اغتنام هذه الفرصة لتحديث ترساناتها العسكرية. إذ قد لا تتجاوز تكلفة المسيّرة الواحدة جزءاً من ألف من ثمن قاذفة قنابل أو دبابة، ومع ذلك، فهي قادرة على إصابة أهداف بالغة التأثير في موازين القوة على الأرض. وقد قدّمت أوكرانيا نموذجاً حيّا على فعالية هذه التقنية في يونيو الماضي، حين نفّذت عملية جريئة باستخدام أكثر من 100 طائرة مسيّرة زهيدة الكلفة من نوع “منظور الشخص الأول” (First-Person View) ، تراوحت كلفة الواحدة منها بين 600 و1000 دولار (أي ما يعادل 490 إلى 820 فرنكاً سويسرياً)، وفقاً لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية. وقد استهدفت هذه الطائرات أربع قواعد جوية روسية، وألحقت أضراراً بنحو 40 طائرة حربية.  ويفيد المعهد الدنماركي للدراسات الدولية بأن أكثر من 65 مجموعة مسلّحة غير حكومية باتت تمتلك اليوم طائرات مسيّرة، في مؤشر واضح على تراجع احتكار الدول لهذا النوع من السلاح. وتصف بلكيس ويلي، المديرة المساعدة في قسم الأزمات والنزاعات والأسلحة بمنظمة “هيومن رايتس ووتش” (HRW)، هذا التحوّل بأنه “منعطف حاسم في قواعد الاشتباك” – في إشارة إلى التحوّل الجذري في طرائق القتال وأدواته.  فتمكّن المسيّرات التجارية، القابلة للتعديل بسهولة، جهات محدودة الموارد، بل حتى أفرادًا يملكون طابعة ثلاثية الأبعاد وحسابًا على أمازون، من تنفيذ هجمات دقيقة داخل المدن. وتقول ويلي: “بات بالإمكان، وبتكلفة متدنية، تنفيذ عمليات استهداف مباشر للمدنيين.ات باستخدام أدوات شديدة الدقة”.  وفي تقرير نشرته في يونيورابط خارجي، وثّقت ويلي استخدام القوات الروسية طائرات مسيّرة رباعية المراوح، متوفّرة تجارياً، لاستهداف مدنيين.ات في مدينة خيرسون الأوكرانية، من خلال إسقاط متفجرات على راكبي.ات دراجات، ومشاة، وركّاب حافلات من الرجال والنساء – في مشهد يجسّد كيف تحوّلت تكنولوجيا مدنية بسيطة إلى أداة فتاكة في ساحات القتال المعاصر.  هل أصبح القانون الإنساني عاجزًا أمام حروب المسيّرات؟ تنص اتفاقيات جنيف وبروتوكولاتها الإضافية بوضوح، على حظر الهجمات العشوائية، وعلى واجب حماية المدنيين.ات أثناء النزاعات المسلّحة. كما تؤكد اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن استخدام الطائرات المسيّرة لا يُعد، في حدّ ذاته، خرقًا للقانون الإنساني الدولي، شرط التزام أطراف النزاع بمبادئ التمييز بين الأهداف، والتناسب، والاحتياط لتفادي الإضرار بالمدنيين.ات. وفي هذا السياق، توضح آنا روزالي غريبل، الباحثة في أكاديمية جنيف للقانون الإنساني الدولي وحقوق الإنسان، أنّ “الشخص الذي يتحكّم عن بُعد في المسيّرة ويتخذ قرار الاستهداف، مُلزم قانونًا بضمان احترام هذه المبادئ الثلاثة، وفقًا لكل حالة وظرف ميداني على حدة”.  وتتفق بلكيس ويلي، المديرة المساعدة في قسم الأزمات والنزاعات والأسلحة لدى “هيومن رايتس ووتش”، مع هذا التوصيف، لكنها تنبّه إلى أن الخطر لا يكمن في وجود فراغ قانوني، بل في قدرة المسيّرات على تسهيل ارتكاب الانتهاكات، مثل الاستهداف المتعمّد للمدنيين.ات، بصورة أسرع وأكثر غموضاً من الوسائل التقليدية. وتحذّر ويلي من إمكانية تسريع توجّه بعض الدول نحو تطوير أنظمة ذاتية التشغيل، لا سيما تلك المدعومة بالذكاء الاصطناعي، هذا المنحى. وتشير إلى روسيا وأوكرانيا، كنموذجين صارخين لتسارع تطوّر تقنيات المسيّرات، والوسائل المضادّة لها.  الأنظمة الذاتية والذكاء الاصطناعي والروبوتات القاتلة وتستطرد ويلي قائلة: “من غير المستبعد تحوُّل المسيّرات المعزَّزة بالذكاء الاصطناعي إلى عنصر ثابت في ساحات القتال، خلال وقت قريب. فثمّة سيناريوهات عدّة لظهور الروبوتات القاتلة، إحداها الطائرات المسيّرة بالتأكيد”. وتلفت إلى أن انتشار المسيّرات قابله سباق محموم نحو تطوير تقنيات التشويش، أي بثّ إشارات لاسلكية أو تداخلات كهرومغناطيسية، لتعطيل أنظمة الطيران والتحكّم.  كما تضيف: “ردًا على هذه التحديات، تروّج بعض الجيوش لفكرة المسيّرات المستقلّة بالكامل، غير المحتاجة إلى أيّ اتّصال مع المشغّل البشري بعد الإقلاع. ويتم تدريبها مسبّقًا على التعرّف على أهداف مثل الدبابات، من خلال مئات آلاف الصور، لتستهدف ذاتيًا”. وتتابع محذّرة: “بمجرد أن يحدث ذلك، نكون قد دخلنا فعليًا عصر الروبوتات القاتلة. فالمسيّرة العاملة من دون تدخّل بشري قد تستهدف طفلًا أو طفلة بنفس سهولة استهدافها دبّابة. وهذا هو السيناريو الأكثر فظاعة، الذي يبدو أنّنا نسير نحوه بسرعة”.  ومن جهة أخرى، تراقب اللجنة الدولية للصليب الأحمر هذه التطوّرات عن كثب. وفي تقريرها الصادر عام 2024 حول التحديات القانونية، تحذّر من أنّ “تحديثًا بسيطًا في البرمجيات، أو تعديلًا في العقيدة العسكرية قد يكون كافيًا لتحويل المسيّرات إلى “أسلحة ذاتية التشغيل” (AWS)، تختار أهدافها وتستخدم القوة دون تدخّل بشري”. مواد قانونية مبهمة يُلزم القانون الإنساني الدُّوَليّ أطراف النزاع بضرورة التمييز بين المقاتلين.ات والمدنيين.ات، والتأكّد من تناسب أيّ هجوم مسلّح مع المكاسب العسكرية المتوقّعة، واتخاذ جميع الاحتياطات الممكنة لتفادي الإضرار بالمدنيين.ات. لكن، يصعّب تصاعد استخدام الطائرات المسيّرة في بيئات معقّدة ومتداخلة، تحديد الأهداف المشروعة بدقّة، وتقدير مستوى الخطر الذي قد يلحق بهؤلاء السكان. وفي هذا الإطار، تلفت الباحثة آنا روزالي غريبل، إلى تعقيدات إضافية ناجمة عن استخدام الذكاء الاصطناعي في جمع البيانات التي تلتقطها المسيّرات وتحليلها، قبل تحويلها إلى مخرجات تُقدَّم لصنّاع القرار العسكري وصانعاته.  وتحذّر قائلة: “يصبح الأمر بالغ الإشكال إذا لم يدرك القائمون.ات على هذه العمليات كيفيّة عمل الافتراضات المضمَنة والانحيازات الخفية داخل خوارزميات الذكاء الاصطناعي، ومع ذلك يعتمدون.ن عليها في اتخاذ قرارات ذات طابع قانوني حاسم”. أما بلكيس ويلي، فتركّز على خطر آخر لا يقل أهمية؛ فبينما تمتلك الجيوش المشغّلة للمسيّرات حدًّا من الفهم، والتدريب على قواعد القانون الإنساني الدولي، تفتقر الشركات التجارية مصمّمة هذه الطائرات ومنتجتها، وخصوصًا تلك العاملة في بيئات تكنولوجية، مثل وادي السيليكون، في الغالب إلى أيّ التزام حقيقي أو معرفة قانونية بهذه المعايير، ما يُهدّد بتوسيع الفجوة بين صنّاع التكنولوجيا وصانعاتها من جهة، ومسؤوليات استخدامها في ميدان القتال من جهة أخرى.  ضوابط هشّة وأطر تنظيمية تجاوزها الزمن وتؤكّد الباحثة كورا موريس، معاناة الأطر الرقابية الدولية الحالية مثل نظام مراقبة تكنولوجيا الصواريخ، ومعاهدة تجارة الأسلحة، وترتيبات واسنار، من خلل بنيوي وثغرات واسعة، إذ فشلت في الحدّ من الانتشار العالمي للطائرات المسيّرة، وفي التصدي لسوء استخدامها المتزايد. وتوضّح: “من الجليّ أن ثمة حاجة ملحّة إلى تعاون دولي جاد لضبط انتشار المسيّرات وتنظيم استخدامها. لقد أثبت الواقع أن الأطر الحالية غير كافية”.  وقد انصبّت المناقشات في الأمم المتّحدة، سواء في نيويورك أو جنيف، على قضية الأسلحة ذاتية التشغيل، ولا سيّما تلك المعروفة إعلاميًّا بـ”الروبوتات القاتلة”. وفي شهر مارس من عام 2024، قادت البرتغال تحالفاً يضم 21 دولة ضمن الأمم المتحدة، دعا إلى تعزيز الشفافية والمساءلة بشأن استخدام المسيّرات المسلحة. كما دعا الأمين العام للأمم المتحدة الدول الأعضاء إلى وضع ضوابط صارمة، أو حظر شامل للأسلحة ذاتية التشغيل قبل حلول عام 2026.  وتختم آنا روزالي غريبل قائلة: “لقد دخلنا عصرًا تُستخدم فيه المسيّرات المدعومة بالذكاء الاصطناعي ليس فقط لرصد الأهداف، بل لاختيارها، وتنفيذ الضربات دون أي تدخّل بشري. ويتطلّب هذا الواقع فرض قيود واضحة وصارمة، قبل أن يفلت الزمام تمامًا من يد القانون”.

شؤؤن عسكرية

تشهد الحروب المعاصرة تحوّلاً جذرياً بفعل الطائرات المسيّرة التي تعيد رسم خرائط النزاعات بوتيرة متسارعة، وتثير في طريقها أسئلةً جوهرية حول حدود المساءلة ومدى الالتزام بقواعد القانون الإنساني الدولي.

وتشهد القدرات الذاتية للمسيّرات تقدما تقنيا متسارعا على نحو غير مسبوق، ما لايدفع الخبراء والخبيرات إلى التحذير من عجز الأطر القانونية الراهنة عن اللحاق بهذه الطفرة التكنولوجية المتنامية.

ويؤكد مؤيدو استخدام الطائرات المسيّرة ومؤيداتها دقتها البالغة ويشبهونها بمشرط جراحي رقمي يجري عملية في منطقة الخلل بعناية محسوبة، ما يسهم – في زعمهم.هنّ – في الحد من الأضرار الجانبية. غير أن الارتفاع المطّرد في أعداد الضحايا المدنيين.ات حول العالم يُكذّب أسطورة “الحرب النظيفة”، ويُظهر زيف الاعتقاد بأن التكنولوجيا وحدها كفيلة بإضفاء طابع أخلاقي على القتال، ما يثير تساؤلات متنامية حول قدرة القوانين الدولية الراهنة على حماية المدنيين.ات في زمن الذكاء الاصطناعي والحروب المؤتمتة

جوهر الموضوع:
  • هل الحرب الذكية مجرّد خرافة؟
  • انتشار المسيّرات وحيازتها من أطراف غير حكومية: هل خرجت الحروب عن السيطرة؟
  • القتل بواسطة الروبوتات دون تدخل البشر. من المسؤول؟

وتفيد مجموعة الأبحاث البريطانية “درون وورز المملكة المتحدة ” (Drone Wars UK) بأن اعتماد المسيّرات ساهم في تخفيض عتبة التحفّظ السياسي على استخدام القوة – بل ربما التسرّع في اللجوء إلى العنف – كما وسّع من نطاق عمليات الاغتيال الممنهجة، وقوّض في المقابل أدوات المحاسبة والمساءلة. فكلّما ازداد بُعد اليد الضاربة عن ساحة المعركة، تضاعفت صعوبة إخضاعها للمحاسبة القانونية.

وفي تقريرها المعنون “الموت عند التسليم“، والصادر في مارس الماضي، وثّقت المجموعة مقتل ما لا يقل عن 943 مدنياً و مدنيةً في خمسين واقعة ناتجة عن ضربات مسيّرة وقعت بين نوفمبر 2021 ونوفمبر 2024، في أفريقيا وحدها. وقد سُجّل نحو نصف تلك الحصيلة (490 قتيلاً وقتيلةً) نتيجة هجمات نفّذتها مسيّرات إثيوبية. أما الضربات الأخرى، فاستهدفت بلدان مثل بوركينا فاسو، ومالي، والصومال، ونيجيريا، والسودان.

وفي هذا السياق، تقول كورا موريس، المشاركة في إعداد التقرير: “يبدو أنّ مفهوم “الهدف المشروع” قد اتّسع إلى درجة باتت معها مناطق بأكملها عرضة لضربات مكثّفة، دون تمييز حقيقي بين المدنيين.ات والمقاتلين.ات الموجودين.ات في ساحة المعركة ذاتها. ففي إثيوبيا، على سبيل المثال، ينتمي عدد كبير من الضحايا إلى إقليمي أمهرة وتيغراي، حيث يكفي الانتماء المناطقي، أو الإثني لتصنيف الفرد كهدف محتمل في كثير من الأحيان”.

وحتى وقت قريب، كانت المسيّرات تُستخدم في الغالب ضمن إطار حملات مكافحة الإرهاب، التي تقودها الولايات المتحدة. وكانت قرارات تنفيذ اغتيالات خارج نطاق القضاء في دول لا تخوض حرباً مباشرة مع واشنطن ، مثل باكستان، تمثّل بؤرة جدل قانوني وانتقاد دولي مستمر.

أما اليوم، فقد غدت المسيّرات أداة مألوفة في الحروب النظامية والنزاعات الداخلية على حدّ سواء، إذ تعتمد عليها قرابة خمسين دولة في ساحات الصراع؛ إنها سلاح منخفض الكلفة، وبالغ التأثير، يهدّد بتجاوز القانون الإنساني الدولي، ويقوّض المعايير العالمية المنظّمة لتجارة السلاح واستخدامه. وقد تسبّبت هذه الضربات في سقوط مئات، وربما آلاف، القتلى من المدنيين.ات، خلال السنوات القليلة الماضية.

ما سرّ هذا الانتشار الكاسح؟

ولكن، ما الذي يفسّر الانتشار المتسارع للطائرات المسيّرة حول العالم؟ الجواب في كلمتين: التكلفة، والسهولة. فقد باتت المسيّرات القادرة على الطيران بعيدا، وعلى ارتفاع متوسط؛ المسمّاة اختصارًا “ميل” (MALE)، والتي كانت حتى وقت قريب حكرًا على دول كبرى، كالولايات المتحدة، وبريطانيا، وإسرائيل، والصين، تُصدَّر اليوم بأسعار زهيدة من قِبل دول، مثل تركيا وإيران، مستفيدةً من وفرة المكوّنات الجاهزة في الأسواق التجارية، واعتماد التصاميم المعيارية، وتوظيف تقنيات مفتوحة المصدر، تُطوّر بسرعة وبتكلفة محدودة، خارج الإطار العسكري التقليدي.

المسيّرات في الشرق الأوسط

  • جذب سوق المسيّرات في المنطقة استثمارات تقارب 100 مليار دولار في عام 2022.
  • شكلت المسيّرات نحو 82% من إجمالي السوق الإقليمية لتجارة الأسلحة في عام 2019.
  • توجد في المنطقة 13 دولة تشغّل طائرات قتالية من دون طيّار.
  • من أبرز الدول المنتجة والمطوّرة للمسيّرات في المنطقة نجد تركيا وإيران وإسرائيل.
  • لم تعد المسّيّرات القتالية حكرا على الحكومات الوطنية، بل أصبحت في متناول أطراف أخرى مثل حزب الله اللبناني وجماعة الحوثي في اليمن.

وقد سارعت العديد من الحكومات إلى اغتنام هذه الفرصة لتحديث ترساناتها العسكرية. إذ قد لا تتجاوز تكلفة المسيّرة الواحدة جزءاً من ألف من ثمن قاذفة قنابل أو دبابة، ومع ذلك، فهي قادرة على إصابة أهداف بالغة التأثير في موازين القوة على الأرض.

وقد قدّمت أوكرانيا نموذجاً حيّا على فعالية هذه التقنية في يونيو الماضي، حين نفّذت عملية جريئة باستخدام أكثر من 100 طائرة مسيّرة زهيدة الكلفة من نوع “منظور الشخص الأول” (First-Person View) ، تراوحت كلفة الواحدة منها بين 600 و1000 دولار (أي ما يعادل 490 إلى 820 فرنكاً سويسرياً)، وفقاً لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية. وقد استهدفت هذه الطائرات أربع قواعد جوية روسية، وألحقت أضراراً بنحو 40 طائرة حربية.

ويفيد المعهد الدنماركي للدراسات الدولية بأن أكثر من 65 مجموعة مسلّحة غير حكومية باتت تمتلك اليوم طائرات مسيّرة، في مؤشر واضح على تراجع احتكار الدول لهذا النوع من السلاح.

وتصف بلكيس ويلي، المديرة المساعدة في قسم الأزمات والنزاعات والأسلحة بمنظمة “هيومن رايتس ووتش” (HRW)، هذا التحوّل بأنه “منعطف حاسم في قواعد الاشتباك” – في إشارة إلى التحوّل الجذري في طرائق القتال وأدواته.

فتمكّن المسيّرات التجارية، القابلة للتعديل بسهولة، جهات محدودة الموارد، بل حتى أفرادًا يملكون طابعة ثلاثية الأبعاد وحسابًا على أمازون، من تنفيذ هجمات دقيقة داخل المدن.

وتقول ويلي: “بات بالإمكان، وبتكلفة متدنية، تنفيذ عمليات استهداف مباشر للمدنيين.ات باستخدام أدوات شديدة الدقة”.

وفي تقرير نشرته في يونيورابط خارجي، وثّقت ويلي استخدام القوات الروسية طائرات مسيّرة رباعية المراوح، متوفّرة تجارياً، لاستهداف مدنيين.ات في مدينة خيرسون الأوكرانية، من خلال إسقاط متفجرات على راكبي.ات دراجات، ومشاة، وركّاب حافلات من الرجال والنساء – في مشهد يجسّد كيف تحوّلت تكنولوجيا مدنية بسيطة إلى أداة فتاكة في ساحات القتال المعاصر.

هل أصبح القانون الإنساني عاجزًا أمام حروب المسيّرات؟

تنص اتفاقيات جنيف وبروتوكولاتها الإضافية بوضوح، على حظر الهجمات العشوائية، وعلى واجب حماية المدنيين.ات أثناء النزاعات المسلّحة. كما تؤكد اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن استخدام الطائرات المسيّرة لا يُعد، في حدّ ذاته، خرقًا للقانون الإنساني الدولي، شرط التزام أطراف النزاع بمبادئ التمييز بين الأهداف، والتناسب، والاحتياط لتفادي الإضرار بالمدنيين.ات.

وفي هذا السياق، توضح آنا روزالي غريبل، الباحثة في أكاديمية جنيف للقانون الإنساني الدولي وحقوق الإنسان، أنّ “الشخص الذي يتحكّم عن بُعد في المسيّرة ويتخذ قرار الاستهداف، مُلزم قانونًا بضمان احترام هذه المبادئ الثلاثة، وفقًا لكل حالة وظرف ميداني على حدة”.

وتتفق بلكيس ويلي، المديرة المساعدة في قسم الأزمات والنزاعات والأسلحة لدى “هيومن رايتس ووتش”، مع هذا التوصيف، لكنها تنبّه إلى أن الخطر لا يكمن في وجود فراغ قانوني، بل في قدرة المسيّرات على تسهيل ارتكاب الانتهاكات، مثل الاستهداف المتعمّد للمدنيين.ات، بصورة أسرع وأكثر غموضاً من الوسائل التقليدية.

وتحذّر ويلي من إمكانية تسريع توجّه بعض الدول نحو تطوير أنظمة ذاتية التشغيل، لا سيما تلك المدعومة بالذكاء الاصطناعي، هذا المنحى. وتشير إلى روسيا وأوكرانيا، كنموذجين صارخين لتسارع تطوّر تقنيات المسيّرات، والوسائل المضادّة لها.

الأنظمة الذاتية والذكاء الاصطناعي والروبوتات القاتلة

وتستطرد ويلي قائلة: “من غير المستبعد تحوُّل المسيّرات المعزَّزة بالذكاء الاصطناعي إلى عنصر ثابت في ساحات القتال، خلال وقت قريب. فثمّة سيناريوهات عدّة لظهور الروبوتات القاتلة، إحداها الطائرات المسيّرة بالتأكيد”.

وتلفت إلى أن انتشار المسيّرات قابله سباق محموم نحو تطوير تقنيات التشويش، أي بثّ إشارات لاسلكية أو تداخلات كهرومغناطيسية، لتعطيل أنظمة الطيران والتحكّم.

كما تضيف: “ردًا على هذه التحديات، تروّج بعض الجيوش لفكرة المسيّرات المستقلّة بالكامل، غير المحتاجة إلى أيّ اتّصال مع المشغّل البشري بعد الإقلاع. ويتم تدريبها مسبّقًا على التعرّف على أهداف مثل الدبابات، من خلال مئات آلاف الصور، لتستهدف ذاتيًا”.

وتتابع محذّرة: “بمجرد أن يحدث ذلك، نكون قد دخلنا فعليًا عصر الروبوتات القاتلة. فالمسيّرة العاملة من دون تدخّل بشري قد تستهدف طفلًا أو طفلة بنفس سهولة استهدافها دبّابة. وهذا هو السيناريو الأكثر فظاعة، الذي يبدو أنّنا نسير نحوه بسرعة”.

ومن جهة أخرى، تراقب اللجنة الدولية للصليب الأحمر هذه التطوّرات عن كثب. وفي تقريرها الصادر عام 2024 حول التحديات القانونية، تحذّر من أنّ “تحديثًا بسيطًا في البرمجيات، أو تعديلًا في العقيدة العسكرية قد يكون كافيًا لتحويل المسيّرات إلى “أسلحة ذاتية التشغيل” (AWS)، تختار أهدافها وتستخدم القوة دون تدخّل بشري”.

مواد قانونية مبهمة

يُلزم القانون الإنساني الدُّوَليّ أطراف النزاع بضرورة التمييز بين المقاتلين.ات والمدنيين.ات، والتأكّد من تناسب أيّ هجوم مسلّح مع المكاسب العسكرية المتوقّعة، واتخاذ جميع الاحتياطات الممكنة لتفادي الإضرار بالمدنيين.ات. لكن، يصعّب تصاعد استخدام الطائرات المسيّرة في بيئات معقّدة ومتداخلة، تحديد الأهداف المشروعة بدقّة، وتقدير مستوى الخطر الذي قد يلحق بهؤلاء السكان.

وفي هذا الإطار، تلفت الباحثة آنا روزالي غريبل، إلى تعقيدات إضافية ناجمة عن استخدام الذكاء الاصطناعي في جمع البيانات التي تلتقطها المسيّرات وتحليلها، قبل تحويلها إلى مخرجات تُقدَّم لصنّاع القرار العسكري وصانعاته.

وتحذّر قائلة: “يصبح الأمر بالغ الإشكال إذا لم يدرك القائمون.ات على هذه العمليات كيفيّة عمل الافتراضات المضمَنة والانحيازات الخفية داخل خوارزميات الذكاء الاصطناعي، ومع ذلك يعتمدون.ن عليها في اتخاذ قرارات ذات طابع قانوني حاسم”.

أما بلكيس ويلي، فتركّز على خطر آخر لا يقل أهمية؛ فبينما تمتلك الجيوش المشغّلة للمسيّرات حدًّا من الفهم، والتدريب على قواعد القانون الإنساني الدولي، تفتقر الشركات التجارية مصمّمة هذه الطائرات ومنتجتها، وخصوصًا تلك العاملة في بيئات تكنولوجية، مثل وادي السيليكون، في الغالب إلى أيّ التزام حقيقي أو معرفة قانونية بهذه المعايير، ما يُهدّد بتوسيع الفجوة بين صنّاع التكنولوجيا وصانعاتها من جهة، ومسؤوليات استخدامها في ميدان القتال من جهة أخرى.

ضوابط هشّة وأطر تنظيمية تجاوزها الزمن

وتؤكّد الباحثة كورا موريس، معاناة الأطر الرقابية الدولية الحالية مثل نظام مراقبة تكنولوجيا الصواريخ، ومعاهدة تجارة الأسلحة، وترتيبات واسنار، من خلل بنيوي وثغرات واسعة، إذ فشلت في الحدّ من الانتشار العالمي للطائرات المسيّرة، وفي التصدي لسوء استخدامها المتزايد.

وتوضّح: “من الجليّ أن ثمة حاجة ملحّة إلى تعاون دولي جاد لضبط انتشار المسيّرات وتنظيم استخدامها. لقد أثبت الواقع أن الأطر الحالية غير كافية”.

وقد انصبّت المناقشات في الأمم المتّحدة، سواء في نيويورك أو جنيف، على قضية الأسلحة ذاتية التشغيل، ولا سيّما تلك المعروفة إعلاميًّا بـ”الروبوتات القاتلة”.

وفي شهر مارس من عام 2024، قادت البرتغال تحالفاً يضم 21 دولة ضمن الأمم المتحدة، دعا إلى تعزيز الشفافية والمساءلة بشأن استخدام المسيّرات المسلحة. كما دعا الأمين العام للأمم المتحدة الدول الأعضاء إلى وضع ضوابط صارمة، أو حظر شامل للأسلحة ذاتية التشغيل قبل حلول عام 2026.

وتختم آنا روزالي غريبل قائلة: “لقد دخلنا عصرًا تُستخدم فيه المسيّرات المدعومة بالذكاء الاصطناعي ليس فقط لرصد الأهداف، بل لاختيارها، وتنفيذ الضربات دون أي تدخّل بشري. ويتطلّب هذا الواقع فرض قيود واضحة وصارمة، قبل أن يفلت الزمام تمامًا من يد القانون”.
تعليقات